البحث العلمي بين الإنفاق والعوائد
تؤثر تطبيقات العلم ومعطيات التقنية في حياة الإنسان أينما كان، ومظاهر هذا التأثر قائمة لا ريب فيها، ولعل أسئلة مثل التالي تدل عليها. كيف كانت حياة الإنسان قبل الجوال، أو قبل الإنترنت، أو قبل الحاسوب، أو قبل الطائرة، أو قبل السيارة، أو حتى قبل كل ما حظي به الإنسان من إنجازات علمية ومنتجات تقنية وضعت بصماتها على حياته، لتجعلها أكثر رفاهية وأعلى إنتاجية في مختلف المجالات. بنظرة إلى واقع حياتنا اليوم، نلاحظ أن العالم يشهد تقدما علميا متسارعا يؤدي، حاضرا ومستقبلا، إلى تأثير متزايد في حياة الإنسان.
وإذا تساءلنا عن دوافع التقدم العلمي وما يعطيه من أثر، لكانت الإجابة، أن هذا الدافع قائم في تكوين الإنسان. فالإنسان، كما أراد الله تعالى له، ملاحظ لظواهر الطبيعة، يريد فهمها واستيعاب مضامينها، ليس ذلك فحسب، بل يسعى، من خلال ذلك، إلى إيجاد وسائل يسخرها لخدمة طموحاته، وتحقيق تطلعاته في بناء حياة أفضل. أي إن الدافع هنا هو توجه الإنسان التلقائي نحو البحث عن مزيد من المعرفة، خاصة تلك الحية، أي التي تتميز بالقابلية للتطبيق، وتقديم الفوائد. ولأن هناك فوائد، يبرز دافع مهم آخر للتقدم العلمي، ألا وهو الدافع الاقتصادي، وهو الدافع الذي يقضي بالإنفاق على البحث العلمي من أجل معطياته المفيدة التي يمكن أن تسهم في التنمية، وأن تعزز استدامتها.
تهتم دول العالم، ليس على مستوى الحكومات فقط، بل على مستوى المؤسسات والشركات أيضا، بالإنفاق على البحث العلمي الذي يسعى إلى التجدد المعرفي وتقديم الأفكار والإسهامات التي تعزز مسيرة التطور والتنمية. وللبحث العلمي، في نظر منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونيسكو" UNESCO، خمسة مستويات رئيسة. هناك في المستوى الأعلى "البحوث الأساسية النقية"، وهي بحوث تهتم بالمعرفة من أجل المعرفة، أي المعرفة غير القابلة للتطبيق حاليا، ولكن ربما على المدى غير المنظور. ثم يأتي مستوى "البحوث الأساسية الموجهة"، وهي بحوث تحمل توجها نحو التطبيق، ولكن ليس على المدى القريب.
تبرز في المستوى التالي "البحوث التطبيقية"، وتتميز هذه البحوث في تقديم أفكار وأساليب وأنظمة تطبيقية جديدة ومفيدة وغير مسبوقة، أو ربما محدثة ومطورة عن معطيات معرفية تطبيقية سابقة. ولكي تستطيع هذه المعطيات الوصول إلى الإنسان، وتقديم الفوائد المرجوة، تحتاج إلى بحوث إضافية تشمل المستويين التاليين. وهذان المستويان هما مستوى "بحوث التطوير التجريبي" الذي يختص باختبار معطيات البحوث التطبيقية على أرض الواقع والتأكد من فوائدها، ومستوى "بحوث تطوير المنتجات" المعنية بشؤون الاستجابة للسوق وجعل المعطيات مرغوبة فيه، وقادرة على المنافسة.
تمنح الجامعات درجاتها البحثية لبحوث المستويات الثلاثة الأولى فقط، على أساس أن الفكر البحثي موجود فيها، وأن المستويين الأخيرين في حكم نقل الفكر فقط، وليس الإسهام فيه. لكن الاهتمام بهذين المستويين لا بد منه من أجل الإسهام في التنمية. ويجري التركيز على بحوث هذين المستويين عادة في المؤسسات والشركات، وفي أودية التقنية وحاضناتها، التي يقيمها عادة التعاون بين الشركات والجامعات، من أجل تجسير الطريق بين البحث العلمي الجامعي من جهة، وبحوث الوصول إلى السوق، من جهة أخرى.
يسلك البحث العلمي الناتج عن المستويات الثلاثة الأولى مسارين. أولهما مسار النشر العلمي الذي يعطي قيمة معنوية حضارية لمصادره، أي للأشخاص والجامعات والدول التي يصدر عنها. أما المسار الثاني فهو مسار التوجه نحو بحوث التجريب والإنتاج والتعامل مع السوق، حيث يسهم نجاح هذا المسار في تقديم قيمة مادية تسهم في التنمية، إضافة إلى قيمة اجتماعية تتمثل في توظيف اليد العاملة. وقد يقال إن الجامعات تميل إلى المسار الأول، وإن الشركات تميل إلى المسار الثاني. وقد يكون ذلك صحيحا جزئيا، إلا أن الأفضل يكمن في تعاون الطرفين، فقد يكون في ذلك توازن يحدد ما يفضل نشره واكتساب قيمته المعنوية من جهة، وما يجب استكمال بحوثه واستثماره في السوق وإسهامه في التنمية من جهة أخرى.
لعلنا تعزيزا لما سبق، نلقي الضوء على أمثلة حول ما يجري في الدول الصناعية بشأن ما يتلقاه البحث العلمي من إنفاق من جهة، وما ينتج عنه من نشر علمي من جهة أخرى، ثم ما نستطيع أن نستخلصه من ذلك. فكوريا الجنوبية تحتل المركز الثاني دوليا في الإنفاق على البحث العلمي، طبقا لتقرير الابتكار العالمي الصادر 2022 GII، لكنها في المركز الـ"29" في النشر العلمي، أي إن الإنفاق الذي يحظى به البحث العلمي لا يتجه نحو النشر فقط، بل نحو السوق والتنمية أيضا. لعلنا نرى كيف قامت كوريا الجنوبية بغزو أسواق العالم في السيارات وفي إلكترونيات المستهلك. والحال مماثل لذلك في دول مهمة أخرى أيضا. فاليابان في المركز "السادس" في الإنفاق والمركز الـ"54" في النشر، والصين في المركز الـ"13" في الإنفاق والمركز الـ"39" في النشر.
تحرص الدول العربية على الإنفاق على البحث العلمي، لكن النسبة الأعلى من هذا الإنفاق تأتي من الحكومات، والنسبة الأقل من الشركات، فأعداد الشركات المنتجة والمهتمة بالبحث العلمي في العالم العربي لا يرقى لما هو موجود في الدول الصناعية. ونلاحظ في بعض الدول العربية الرئيسة ظاهرة مختلفة عن الدول سابقة الذكر. فطبقا للتقرير ذاته المذكور أعلاه، تحتل الأردن المركز الـ"51" في الإنفاق والمركز الـ"26" في النشر، وهو مركز أفضل من مركز كوريا الجنوبية رغم الإنفاق المحدود. وهناك ما يماثل ذلك في دول عربية أخرى. ولعل في ذلك دلالة على قدرة الباحث العربي، ولكن على عدم توجيه هذه القدرة نحو مسار التنمية.
لا شك أن الإنفاق على البحث العلمي مطلوب، لكن المطلوب أيضا هو ألا يكون مسار هذا البحث موجها نحو النشر العلمي فقط، بل يكون موجها أيضا نحو الإنتاج والسوق وتحقيق العوائد التي تسهم في التنمية. والمسؤولية في ذلك تكمن في التخطيط والتعاون بين عملاقي المعرفة المتجددة، الجامعات والشركات.