هل السندات مغرية حاليا؟

ليس بالأمر الهين التنبؤ بمسار عوائد السندات في الأعوام المقبلة، إلا أن هناك من يرى أن المستويات الحالية مغرية بما يكفي لجعل المستثمرين يتجهون نحو شراء السندات، وذلك من أجل صيد عصفورين بحجر واحد، إن صح التعبير. هؤلاء المحللون يرون أن العصفور الأول هو الاستحواذ على العائد الحالي المرتفع نسبيا، والعصفور الثاني يأتي حين ترتفع أسعار السندات لاحقا حينما تضطر البنوك المركزية إلى خفض معدلات الفائدة، لإنعاش الاقتصادات التي ستكون تراجعت وتضررت بسبب ارتفاع معدلات الفائدة الحالية.
هذه الاستراتيجية مبنية على افتراض أن العائدات الحالية وصلت إلى القمة، وبذلك فمن المفترض ألا يكون هناك مزيد من الارتفاعات، غير أن الحقائق التاريخية تحذر من الإيمان المطلق بهذه الافتراضات. فبينما يتصدر خبر تجاوز العائد على السندات العشرية الحكومية الأمريكية هذه الأيام حاجز 5 في المائة، فإن العائد ذاته وصل في 1981 إلى نحو 16 في المائة، وكان طوال الثمانينيات بين 8 إلى 12 في المائة، وفي التسعينيات في حدود 6 في المائة. صحيح أن معدلات الفائدة أخذت في الانخفاض المتواصل منذ 1981 وانخفض العائد العشري معها إلى ما دون 2 في المائة عقب الأزمة المالية العالمية، إلا أن لكل حقبة تاريخية ظروفها، وها هي التجربة اليابانية خير دليل على إمكانية استمرار معدلات الفائدة في مناطق مخالفة للتوقعات لأعوام أطول.
انخفاض معدلات الفائدة على مدى الأربعة عقود الماضية سببها ارتفاع الديون الأمريكية والعالمية، ولو لم تكن هناك معدلات فائدة منخفضة لما تمكنت الدول من الاقتراض بالأحجام الكبيرة المشاهدة، فأول من يعاني ارتفاع معدلات الفائدة هي الدول وكذلك الشركات التي لديها حاجة ماسة للاقتراض. وعلى الرغم من أن زيادة الديون ترفع من تكلفة الاقتراض إلا أن تدخل البنوك المركزية يؤدي إلى خفض التكلفة نتيجة ضخ السيولة في الأسواق. وهذه الآلية هي المتبعة في الولايات المتحدة، حيث يقوم الاحتياطي الفيدرالي بدفع عائدات السندات التي تصدرها الحكومة الأمريكية نحو الأسفل من خلال قيامه بشرائها من الأسواق.
بحسب المعهد العالمي للتمويل وصل حجم الديون العالمية إلى 307 تريليونات دولار بمنتصف 2023، وبحسب مقياس آخر من صندوق النقد الدولي وصل حجم الديون العامة والخاصة العالمية إلى 235 تريليون دولار في 2022، ولا ننسى أن حجم ديون الحكومة الأمريكية وحدها تجاوز 33 تريليون دولار هذا العام.
لذا فلا يمكن الجزم بأن العوائد الحالية مرتفعة بشكل كاف ما يجعل معه المستثمرين يقتنصونها كفرصة لا تفوت، هذا من جانب، أما الجانب الآخر فمن الضروري الانتباه إلى أن عوائد السندات ليست تراكمية، فالحصول على عائد 5 في المائة لمدة عشرة أعوام لا يعني تراكم رأس المال طوال عشرة أعوام، كما يمكن الحديث عنه عند النظر إلى عوائد الأسهم التراكمية التاريخية على سبيل المثال.
المشكلة الأخرى في مسألة تبرير شراء السندات في هذه الأوقات بحجة أن أسعار السندات سترتفع مستقبلا حين تنخفض معدلات الفائدة، أن ذلك ليس مضمونا بالطبع ومن الممكن أن تواصل أسعار السندات الانخفاض، فتكون هناك خسارة رأسمالية بحق المستثمر إضافة إلى تفويت فرص الحصول على عوائد عالية نتيجة انخفاض أسعار السندات. هذا يعني أن السيناريو المعاكس يأتي من الحصول في آن واحد على خسارة رأسمالية وعوائد دورية متدنية مقارنة بالعوائد السائدة في حال ارتفعت معدلات الفائدة.
حركة السندات في المستقبل تتأثر بالأوضاع الاقتصادية العالمية المعرضة لجملة من التحديات على صعيد البيئة الائتمانية والتضخم ونمو الناتج المحلي العالمي، إلى جانب الظروف الجيوسياسية والحروب القائمة والمحتملة في الشرق الأوسط وأوروبا والصين. بحسب آخر دراسات صندوق النقد الدولي من المتوقع أن يكون النمو الاقتصادي العالمي 3 في المائة لهذا العام، مقارنة بـ3.5 في المائة لـ2022، ومزيد من انخفاض النمو في 2024 إلى 2.9 في المائة. أما الدول المتقدمة فسيكون انخفاض النمو أكبر من غيرها، 1.5 في المائة لـ2023، و1.4 في المائة في 2024. هذه التوقعات تشير إلى تباطؤ اقتصادي ولكنها لا تعني بالضرورة حتمية خفض معدلات الفائدة، فالتضخم يلعب دورا مهما في مثل هذا القرار، إلى جانب صعوبة تحديد طول الفترة الزمنية الممكن بقاء الاقتصادات متراجعة فيها قبل أن تتحرك البنوك المركزية باتجاهات معاكسة لتوجهاتها الحالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي