Author

دراسة الآثار لمعرفة مقدار الدينار النبوي

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

لو حاولت أن تجد إجابة لسؤال عن مقدار الصاع النبوي، فإنك ستجد تفاوتا واسعا فيه، فهناك من يرى أن الصاع يبلغ مقداره ثلاثة كيلوجرامات، وهناك من يقيسه بأربعة أمداد، ويقدرها البعض بـ2.040 أو 2.176 كيلوجرام، والبعض يقدر ذلك بالرطل العراقي حيث يبلغ الصاع 5.33 رطل، وهو ما يعادل وفقا لبعض الحسابات 1.103 كيلوجرام، فالمسألة فيها تشتت واسع، وتحتاج إلى تأمل ودراسات أكثر صرامة، تستند إلى شواهد تاريخية، وهنا سأعود لفلسفة جوستاف لوبون في التاريخ، الذي لديه آراء بشأن تقرير الحوادث بالشهادة، وفيه عبارة مهمة وهي أنه كلما قل تذكر حادث عظم الميل الجماعي إلى الشهادة حوله.
قد تلحظ عزيزي القارئ أن الصاع النبوي لم يعد موجودا منذ زمن بعيد، وقد تغيرت طرق الوزن كثيرا، ما تتطلب تحولات، ولو كان الصاع النبوي موجودا لما احتاج كل هذا النقاش والاختلافات حوله، وهنا أحيل القارئ الكريم لدراسة مهمة أجراها البروفيسور فيصل الطميحي عضو مجلس الشورى السعودي الذي عمل في مؤسسة النقد العربي السعودي، بالمركز الرئيس في الرياض ثم في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني وهو رئيس قسم السياحة والآثار في كلية الآداب بجامعة جازان، واستعراض سيرة الدكتور فيصل مهم، لأنه المتخصص في الجانبين في النقد وفي التراث، لهذا تأتي دراسته عن تحرير الصاع النبوي مهمة، وقد نشر هذه الدراسة في مجلة "عالم المخطوطات والنوادر" 2017، وفيها يتتبع تاريخ الصاع النبوي بدقة علمية تستند إلى آثار، وفي هذا يتفق مع فلسفة لوبون من حيث تعيين الحوادث التاريخية بدراسة الآثار المادية، حيث تختزن الآثار بمختلف أنواعها كافة ما ظهر في زمنها من أفكار، وتبرز منظور احتياجات الزمن الذي سادت فيه تلك الآثار.
يبدأ بحث الدكتور الطميحي كما أشرت أعلاه إلى أن هناك آراء في تحديد مقدار الصاع النبوي، وهذا له تأثير ممتد إلى تقدير زكاة الفطر والصدقات وسائر الكفارات، بل حتى في تحديد كمية الماء الكافية للوضوء والغسل، فهناك رأيان متقاربان بأن المد النبوي يعادل "حفنة واحدة بيد الرجل المعتدل" والصاع يساوي "أربعة أمداد"، بينما هناك رأي ثالث يرى أن المد يعادل "أربع حفنات" ومعنى هذا أن الصاع في الرأي الثالث أكبر بكثير من الصاع في الرأيين السابقين إذا تم قياسه بالمد، المشكلة هي كما قلت إن الصاع النبوي غير موجود، ومع الأسف فإن جهود البحث عن الآثار النبوية لم تتجاوز حتى الآن هدف العرض في المتاحف، دونما اهتمام بإعادة رسم الخريطة المفاهيمية لدينا عن العلاقات الاقتصادية الشائكة، فالحديث "الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة"، ومع ما حصل في العهود الإسلامية التي تلت والفتوحات فقد قام العلماء بإعادة قياس المكيال "بالوزن"، ومن ذلك ما أورده الدكتور الطميحي عن البهوتي قوله: "والوسق والصاع، والمد مكاييل نقلت إلى الوزن، أي قدرت بالوزن لتحفظ ولا يزاد ولا ينقص منها، وتنقل من الحجار إلى غيره"، ولقد بدأت الأمور تتمايز نوعا ما عندما تم استخدام الرطل بدلا من الصاع، فقد روي عن أحمد أنه قال: "الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة"، وقال حنبل: قال أحمد "أخذت الصاع من أبي النضر، وقال أبو النضر أخذته من ابن أبي ذئب، وقال هذا صاع النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يعرف في المدينة فأخذنا العدس فعيرنا به ـ وهو أصلح ما يكال به، لأنه لا يتجافى عن موضوعه، فكلنا به ثم وزناه، فإذا هو خمسة أرطال وثلث" وكل هذا يدل على انتقال الكيل للوزن، والسؤال كم يكون مقدار الرطل؟ قال ابن عربي: الرطل 12 أوقية بأواقي العرب، والأوقية 40 درهما، وعلى هذا فإن الرطل "12 مضروبة في 40" فالرطل يساوي 480 درهما، لكن المشكلة أن الدراهم كانت أشكالا عدة منها الدراهم البغلية، وهي الدراهم الكبار، وهناك الدراهم الوسط، والدراهم الصغار، فأي هذه الدراهم كان للوزن، فقد يختلف وزن درهم عن درهم، هنا يصل بحث الدكتور الطميحي لنقطة مفصلية وهي أن الناس في الجاهلية وفي الإسلام كانوا لا يتعاملون بالدراهم عن طريق العد، وإنما عن طريق الوزن ويستشهد على ذلك بكتاب فتوح البلدان.
بهذه الطريقة من النقاش نصل للمشكلة القديمة، ما وزن الدرهم الذي كان مثقالا، أو ما وزن الدينار الذي كان هو المثقال أيضا؟ فهناك نقل من الشهادات لكن نحتاج إلى أدلة من نوع مختلف، أدلة ذات صبغة تراثية، أدلة من دراهم قديمة يتم البحث عنها واكتشافها، وهي "في ظني موجودة في مكان ما"، لقد بدأ بحث الدكتور الطميحي باكتشاف أثري مهم وهما مكيالان أثريان، كبير وصغير عثر عليهما في أحد المواقع الأثرية في مدينة جيزان، وحجم المكيال الصغير أكبر قليلا من نصف حجم المكيال الكبير، وقد تم ترجيح أنهما من العصر العباسي المبكر، حسب وصف الباحث، وقد استخدم الدكتور الطميحي هذين المكيالين في احتساب المد والصاع النبوي، وقد توصل إلى استنتاجات مهمة، منها أن الصاع النبوي يعادل 21 لترا من الماء أو 16320 جراما "أكثر من 16 كيلو" وهذا فرق كبير، لكن المهم "إن ثبتت صحة استنتاجات الدكتور الطميحي وهي المبنية على اكتشاف أثري" أنه يمكن إعادة احتساب الدراهم بالعودة بالأوزان، لكن ليس هذا بيت القصيد، بل من المهم أن ندعم اتجاهات البحث من أمثال جهود الدكتور الطميحي للوصول إلى نتائج قد تكون جديدة كل الجدة في فهم الاقتصاد الإسلامي.

إنشرها