لعقود طويلة كانت بلدان الشمال الأوروبي تفخر وتتباهى بأن لديها أكبر تجمع لأسماك السلمون في أنهارها وجداولها المائية، ولعقود طويلة أيضا كانت كندا والولايات المتحدة تتباهيان وتفتخران بأن كميات كبيرة من أسماك السلمون التي تصل إلى موائد الطعام حول العالم تأتي من أنهارهما وجداولهما المائية. ولأعوام عدة ظل سمك السلمون نوعا من الطعام الفاخر خاصة خارج شمال أوروبا وكندا والولايات المتحدة.
اليوم تقلص كل هذا التباهي إن لم يكن قد اختفى، فأسماك السلمون تراجعت بشدة في الأنهار والجداول المائية في مناطق وجودها التقليدية، حيث فقد السلمون كثيرا من حظوته السابقة التي كانت تضعه في مقدمة قائمة الطعام الفاخر، إذ بات متاحا بشكل معتاد في عديد من المحال التجارية.
وتشير بعد التقديرات إلى أن المعروض من سمك السلمون الأطلسي زاد بنسبة 500 في المائة منذ عام 1995، وبات اليوم ثاني أكثر الأسماك استهلاكا بعد التونة على موائد الطعام.
وإذا كان علينا أن نقدم الشكر يوما ما لهذا التطور الذي رفع الاحتكار الأوروبي عن تناول سمك السلمون، وحوله من طعام أوروبي محض إلى وجبة غذائية يمكن تناولها في أي بقعة من بقاع الأرض، فإن الشكر يجب أن يوجه إلى صناعة المزارع السمكية أو ما يعرف بالاستزراع السمكي.
في عالم اليوم تعد تربية الأسماك أسرع أشكال إنتاج الغذاء نموا في العالم. وتمثل المأكولات البحرية نحو 17 في المائة من استهلاك البروتين في العالم، وفي بعض أجزاء آسيا وإفريقيا تصل تقريبا إلى 50 في المائة، ويعود الفضل في ذلك إلى النمو السكاني المتزايد وارتفاع الدخل، حيث يتوقع أن يصل استهلاك الأسماك إلى 180 مليون طن بحلول عام 2030 مقابل 158 مليون طن في عام 2020.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن 90 في المائة من مصائد الأسماك الطبيعية في البحار والمحيطات حول العالم يتم الصيد فيها بأقصى ما يمكن من طاقتها أو حتى بما يتجاوز طاقتها، ولذلك فإن تربية الأحياء المائية تمثل تقريبا كل النمو الحادث في استهلاك الأسماك منذ عام 1990، وتقريبا كل النمو المستقبلي في استهلاك الأسماك.
ويقول لـ"الاقتصادية"، ك. سي أندروا المهندس الزراعي من شركة "مزارع البحر الاسكتلندية المحدودة"، "إن تربية الأسماك نوع من تربية الأحياء المائية، يقتصر فيها استخدام الأسماك على الاستهلاك البشري، ويتضمن هذا النوع من الزراعة التدخل الإنساني في العملية الإنتاجية لتعزيز الإنتاج، فبسبب النمو السكاني وارتفاع الطلب على البروتين، فإن القلق العالمي بشأن أمن الإمدادات الغذائية يدفع إلى توسع سوق تربية الأسماك، كما أن الاختراقات التكنولوجية الجديدة في مجال تربية الأسماك وزراعة الأعشاب البحرية تساعد على توسع سوق تربية الأسماك، تضاف إلى ذلك التغيرات البيئية في عديد من المصايد الطبيعية ما يدفع إلى ازدهار المزارع السمكية".
وحول نمو سوق تربية الأسماك، يجيب "من المتوقع أن يصل حجم سوق تربية الأسماك إلى 410 مليارات دولار بحلول عام 2030 بمعدل نمو سنوي مركب قدره 5.4 في المائة، وحجم سوق تربية الأسماك العالمية بلغ في عام 2021 نحو 269 مليار دولار وستسيطر منطقة آسيا والمحيط الهادئ على السوق بأكبر حصة نمو تبلغ 6.4 في المائة".
مع تجاوز عدد سكان العالم ثمانية مليارات نسمة باتت مسألة الأمن الغذائي أكثر إلحاحا، وفي الأعوام الأخيرة توسعت سوق الأغذية العالمية بشكل كبير خاصة مع التقدم الحادث في الأنظمة الغذائية، وتحسين خدمات النقل والتوصيل، وزيادة قدرة قطاعات وفئات اجتماعية على دفع تكاليف "رفاهيتها الغذائية" وتوسع التجارة العالمية، وارتفاع الإنفاق الاستهلاكي، وبالطبع تطورت صناعة الأغذية بشكل مستمر استجابة لاحتياجات المستهلكين، ولمواجهة هذا الوضع تمت زيادة إنتاج الأسماك بشكل كبير، خاصة أنها تعد وجبة الغذاء الرئيسة لعديد من المجتمعات.
يعتقد أغلب الخبراء أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ ستسيطر على سوق الاستزراع السمكي خاصة أن عديدا من الدول الصاعدة اقتصاديا في المنطقة تتمتع بإمدادات مياه ضخمة، ما يجعل من صناعة مزارع الأسماك صناعة مربحة. وتشهد دول مثل فيتنام والصين وإندونيسيا والفلبين وأستراليا تطورا كبيرا في تلك الصناعة بسبب الطلب المحلي الكبير على الأسماك وارتفاع نصيب الفرد من الدخل واهتمام الشركات الدولية بالاستثمار في مجال الاستزراع السمكي في تلك البلدان بسبب انخفاض تكاليف العمالة والمبادرات الحكومية الداعمة للمزارع السمكية.
يكشف الازدهار الراهن في الاستزراع السمكي في الصين الأهمية التي توليها البلاد إليه باعتباره أحد المصادر الأساسية لإمداد المجتمع باحتياجاته من الغذاء. فالصين تعد المستورد الرئيس لمسحوق الأسماك في العالم، وعلى الرغم مما أدى إليه ذلك من مشكلات في بعض البلدان الإفريقية مثل السنغال حيث يتم تحويل الأسماك الصغيرة التي كان يستهلكها الناس إلى مسحوق سمك ليصدر لاحقا إلى الصين، فإن قطاع الاستزراع السمكي الصيني يواصل التطور بمعدلات سريعة للغاية.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، الباحث ريتشارد كاري المتخصص في المصايد البحرية في جامعة بريتون "يتضح النمو المتواصل لقطاع الاستزراع السمكي في الصين من المخطط الذي نشرته وزارة الزراعة الصينية لتنمية مصايد الأسماك حتى عام 2025، فمن المتوقع أن يرتفع إنتاج المأكولات البحرية السنوي من نحو 66 مليون طن في عام 2020 إلى 69 مليون طن، وسيظل الحد الأقصى للصيد في المياه الساحلية الصينية عند حدود عشرة ملايين طن وسيتم خفض عدد سفن الصيد الكبيرة ومتوسطة الحجم، وهذا يعني أن الصين ستزيد إنتاجها من الصيد في المياه البعيدة ومن الاستزراع السمكي".
ويضيف "لكن بالنسبة إلى الصيد في المياه البعيدة فإن الهدف أن يزيد الإنتاج من مليوني طن إلى 2.3 مليون طن، ولذلك التركيز سيكون على الاستزراع السمكي في الأساس، وفي عام 2020 كان إنتاج تربية الأحياء المائية أربعة أضعاف الصيد في المياه الساحلية الصينية".
لكن الباحث ريتشارد كاري يرى أن نمو الاستزراع السمكي في الصين وحول العالم قد يكون مفيدا للأمن الغذائي، إلا أنه ليس بالضرورة خبرا جيدا للبيئة، على حد قوله.
الدكتورة جودي ماكس الاستشارية في معهد الدراسات البحرية تتفق مع وجهة النظر تلك، وترى أن زيادة المزارع السمكية أو الاستزراع السمكي ترافق حالة من الارتجال تركت كثيرا من الآثار البيئية السلبية التي تضرب الصناعة من حين إلى آخر وتصيبها بكثير من الخسائر.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن الأفكار الأولية للمزارع السمكية ظهرت في النرويج في سبعينيات القرن الماضي من خلال حفظ سمك السلمون في حظائر مفتوحة في الخلجان وإطعامه بانتظام ثم صيده وبيعه في الأسواق، واعتبرت تلك الطريقة نظيفة ومستدامة لإنتاج البروتين بكميات كبيرة والأهم تخفيف الضغط على المخزونات الطبيعية الموجودة في الأنهار والبحار والمحيطات، الفكرة امتدت إلى كندا وتشيلي واسكتلندا والولايات المتحدة وكلها أماكن رحبت فيها الحكومات ومجتمعات الصيد التي تعاني ضغوطا شديدة في الاستثمار وتوفير الوظائف بالأساليب الجديدة".
وتضيف "لاحقا امتدت عمليات استزراع الأسماك إلى جميع الدول والمجتمعات، بما في ذلك كثير من البلدان التي لا توجد لديها منافذ بحرية، بصفة عامة تم التوسع في الصناعة دون الأخذ في الحسبان التداعيات البيئية التي يمكن أن تؤدي إليها نفايات الأسماك التي تلوث المحيطات، كما تتطلب المزارع السمكية في كثير من الأحيان تدفقات مستمرة من المياه العذبة من الأنهار أو الآبار، ما يمثل مصدرا تنافسيا مع أولئك الذين يرغبون في شربها أو استخدامها في الزراعة، وتربية الأسماك أيضا في أماكن قريبة من بعضها بعضا يؤدي إلى تفشي الأمراض والطفيليات التي تجتاح المياه المفتوحة".
وبالفعل فقد أشارت تقارير دولية إلى أن مزارع الأسماك في بحيرة فيكتوريا تعرضت أواخر العام الماضي لكارثة أدت إلى نفوق الأسماك نتيجة ارتفاع مياه القاع إلى السطح ما تسبب في استنزاف الأكسجين من الماء ونفوق الأسماك، وقد أرجع الخبراء ذلك إلى التلوث، بينما أدى استحواذ تربية الأسماك على أكثر من 30 في المائة من السواحل الصينية من ثمانينيات القرن الماضي إلى عام 2014، إلى تفتيت التربة وتقليص المستنقعات المالحة في دلتا النهر الأصفر بنسبة 80 في المائة.
إلا أن تلك المخاوف البيئية لا يجب أن تقف، من وجهة نظر جيمس ووالف الباحث في المجال التكنولوجي، عقبة أمام مواصلة الاعتماد على الاستزراع السمكي بوصفه مصدرا مهما للإمدادات الغذائية للأعداد المتزايدة من البشر.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن هناك عديدا من المشكلات البيئية المرافقة للاستزراع السمكي، لكن التقنيات الحديثة مثل أنظمة الاستزراع المائي المعاد تدويرها عبر تربية الأسماك على الأرض في خزانات يتم تنظيف مياهها وإعادة تدويرها باستمرار، تضمن التغلب على تلك التحديات، بل بات متوافرا الآن بعض التقنيات المستخدمة في مزارع الأسماك يمكنها رفع الإنتاجية بنسبة 20 في المائة مع الاعتماد على البيئة الطبيعة، وحتى إذا كانت التكلفة المالية لتلك التكنولوجيا مرتفعة في الوقت الراهن، فإن أسعارها ستتراجع مع مرور الوقت".
ويضيف "كما يمكن للحكومات، عبر تقديم دعم قوي لمزارعي الأسماك، تشجيع أصحاب تلك المزارع خاصة صغيرة الحجم للاعتماد على مزيد من التقنيات الحديثة لزيادة الإنتاج والحفاظ على البيئة في آن واحد، خاصة مع الزيادة العالمية المتواصلة في الطلب على السمك والمأكولات البحرية".

صناعة مربحة .. 410 مليارات دولار سوق تربية الأسماك بحلول 2030 بنمو سنوي 5.4 %

أضف تعليق