السياحة .. ناتج وحضارة وثقافة
يمثل قطاع السياحة على المستوى العالمي مرتكزا أساسيا في العوائد المالية لأي دولة، ويسهم بكل تأكيد في رفد الناتج المحلي الإجمالي، بما يكفل لها نموا مستداما، خصوصا إذا ما كانت تنفذ برامج متنوعة، ومشاريع مساندة، وشراكات عالمية عميقة، وتقوم بتطوير مستمر لأدواتها السياحية، وتستغل كل ما تملكه من إمكانات بشرية وطبيعية. وهذا القطاع، كما هو معلوم، يحرك كثيرا من المرافق المهمة مثل الفنادق والطيران والنقل حتى الأسواق المحلية، وينشط مفهوم الثقافات المتبادلة بين شعوب العالم من ناحية زيارة المواقع الأثرية والتأريخية والتعرف على دورها وأهميتها الثقافية. إنه قطاع بلغت مساهمته عمليا في بعض الدول 20 في المائة من ناتجها المحلي. حتى في الدول الصناعية الكبرى، تشكل السياحة ميدانا تنمويا واسعا. ولذلك تتنافس وتتسابق الدول على استقطاب السياح وتقديم التسهيلات كافة للقدوم إليها، ففي فرنسا (مثلا) تخطت إيرادات السياحة أكثر من 200 مليار دولار سنويا، وهي مرشحة لأن ترفعها بحلول نهاية العام الحالي إلى 216 مليار دولار. وهذه الدولة تتصدر (كما هو معروف) قائمة الدول الأكثر استقطابا للسياح، بعدد يبلغ 90 مليون سائح سنويا. والأمر مشابه في الولايات المتحدة وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا وغيرها. وهي دول وضعت قطاع السياحة على رأس اهتماماتها المحلية كمورد للدخل والإيرادات.
وتسعى الدول لفتح الباب للاستثمار العالمي في قطاع السياحة ومساعدة القطاع الخاص على الوصول إلى رأس المال العالمي لتهيئة المرافق والبنية التحتية التي يحتاج إليها السائح. وهذا ما يبرر حصة السياحة في الناتج المحلي العالمي الإجمالي التي بلغت 5.8 تريليون دولار، أي نحو 6.1 في المائة من حجم الاقتصاد الدولي عموما. وما كانت هذه العوائد لتظهر بالفعل لولا الاهتمام البالغ من جانب الحكومات المختلفة بقطاع، لا ينحصر فقط في السياحة بمفهومها المجرد، بل يشمل أيضا الجوانب الثقافية والفنية والترفيهية والتراثية والإبداعية المتعددة. حتى إن مهرجانات متخصصة وفعاليات ومؤتمرات ومناسبات، تسهم في رفع حجم العوائد السياحية.
ولأن الأمر كذلك، فإن الاستثمارات في القطاع السياحي دائمة النشاط، وهي تستند إلى استراتيجية أساسها تعزيز القطاع بما يكفل رفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي النمو المطلوب في هذه الدولة أو تلك. وهذه الاستثمارات لا تمكن القطاع فحسب، بل تدعم أيضا إيجاد وظائف أساسية فيه على الساحات المحلية. فعلى المستوى العالمي، توفر السياحة ما يقرب من 300 مليون وظيفة، وهناك عشرات الآلاف من الوظائف غير المباشرة، ما يرفع أهمية الاستثمار السياحي بشكل عام. وبغياب هذا الاستثمار، لن تكون هناك قفزات نوعية، بصرف النظر عن السياسات التي تدعم السياحة، والقوانين التي تسهل مسارها. ومن المتوقع أن يزداد عدد السياح عالميا في العام المقبل ما بين 80 و95 في المائة مقارنة بمستويات 2019، وهذا يعزز مرة أخرى أهمية الاستثمار السياحي.
والاستثمار السياحي لا يقتصر على المال المحلي فحسب، بل يشمل بالدرجة الأولى الاستثمار الأجنبي، خصوصا إذا ما كانت الأرضية صلبة في هذا البلد أو ذاك. في السعودية، تمضي الأمور وفق ما هو مخطط لها، واستنادا إلى المحاور الرئيسة في رؤية المملكة 2030 التي وضعت السياحة محورا أساسيا في استراتيجية البناء الاقتصادي عموما. فالسياحة فيها حققت نموا في العام الماضي بلغ 4.45 في المائة، ومخططاتها الاستثمارية لا تقف عند حدود معينة، طالما أنها تصب في تحقيق الهدف، وهو أن تحتل المملكة مكانتها في الميدان السياحي عالميا. والمخططات الراهنة تشمل زيادة هائلة في عدد الغرف الفندقية عبر استثمارات حكومية من جهة القطاع الخاص بكل تأكيد، كما أنها تستعد لإطلاق مدرسة متخصصة في هذا القطاع باسم "مدرسة الرياض للسياحة والضيافة"، وهي تمضي إلى الأمام في استثمار 800 مليار دولار في السياحة في الأعوام العشرة المقبلة.
واستضافتها الأخيرة مؤتمرا هو الأكبر في تاريخ المؤتمرات السياحية تحت عنوان "السياحة والاستثمار الأخضر"، بمشاركة أكثر من 500 شخصية حكومية وقيادية في الميدان السياحي، من 120 دولة، تأتي ضمن مخططاتها الاستراتيجية في هذا المجال. والمملكة تركز على أهمية الاستثمارات السياحية في الأعوام القليلة المقبلة، ليس فقط لرفع حصة السياحة في الناتج المحلي، بل لإبراز دورها الحضاري والسياحي والثقافي، وعرض إمكاناتها الكبيرة التي تتمتع بها، وآن الأوان لأن تقدم إلى العالم بأعلى معايير الجودة. ووسط هذه "الورشة السياحية المتميزة"، هناك مخططات جديدة تطرح خلال العقود المقبلة، وليست منحصرة في المواسم فقط.