مسار «أوبك +» .. والوكالة المتحيزة

بعد فترة من عدم الاكتراث وتقارير من منظمات دولية رصينة، أن النفط في طريقه إلى الذروة قريبا ومن ثم الأفول، صعدت إلى السطح فجأة موجة من الاهتمام بالوقود الأحفوري الاستراتيجي هذا، وصار مرة أخرى لسان حال الإعلام في الولايات المتحدة والدول الغربية قاطبة.
وآخر تقرير يتنبأ بأن أيام النفط باتت معدودة، وأن نمو الاستهلاك أو بالأحرى الطلب على النفط سيأخذ مسار الهبوط الحاد بعد نحو خمسة أعوام، كان من تأليف وكالة الطاقة الدولية أخيرا.
أتت لغة التقرير والمصطلحات التي في ثناياه وكأن ما في متنه واقع حال لا يمكن تفنيده، لما احتواه من مصادر وجداول ومخططات ورسوم بيانية، وصدقه البعض وصار الحديث عن أن نهاية العقد الحالي ستشهد عزوفا عن استهلاك النفط لا رجعة فيه ذا مصداقية، إلى درجة أن بعض المؤسسات الغربية أخذت تبني سياساتها على الواقع القريب الجديد.
لم يكن الأمر صادما للمحللين والباحثين المستقلين في شؤون النفط أن يتفوق نمو الطلب على التوقعات، ولم يمض على صدور التقرير أشهر ثلاثة، حيث بلغت الأسعار أعلى مستويات لها وعبرت سقف الـ95 دولارا، قبل أن تهبط قليلا في جلسات منتصف الأسبوع.
سأعزف عن التنبؤ أو تقديم توقعات عن الأسعار ومساراتها. لقد حدث أن اكتويت مرة أو مرتين أثناء عملي صحافيا في وكالات غربية عندما أتت الرياح عكس سفن الأسعار والمسارات التي قدمتها.
بيد أنه طلب مني تقديم أي توقعات تقول من العسر تصديق وكالات غربية مثل وكالة الطاقة الدولية، لسبب واضح وهو أن وجودها في الأساس هو خدمة الدول المستهلكة للنفط، وفي المقدمة منها الدول الغربية، ولهذا لا بد أن تشوب عملها مسحة من الشأن السياسي والانحياز إلى المصالح. ويخطئ من يظن أن وكالة مثل هذه ستشتغل بنزاهة، بمعنى أنها تنظر بعين المساواة إلى قطبي المعادلة: الدول المستهلكة للنفط والدول المصدرة له.
من الأسباب التي تذكرها الوكالة لقرب ذروة الاستهلاك يأتي في مقدمتها تسريع التحول إلى الطاقات البديلة أو النظيفة. قد يكون هذا صحيحا إلى حد ما لدولة أو دولتين غربيتين، لكنه بعيد المنال على طول وعرض الدول الغربية، ومن ثم يغض التقرير الطرف عن أن سوق الاستهلاك لم تعد محصورة في الدول الغربية، حيث برزت أسواق عديدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، قد تلتهم ما هو مطروح من النفط وما قد يزيد.
من هنا كان لا بد من تشكيل مسار واضح ومستقل للإنتاج قادته المملكة. الرؤى واضحة والاستراتيجية لتحقيق الهدف موضوعة على أسس سليمة.
أظن أن تحالف "أوبك" الذي قادته المملكة مع دول مصدرة للنفط من خارج المنظمة ومنه تشكلت "أوبك +" يعد من أهم الإنجازات الاستراتيجية لكبح جماح الدول المستهلكة الغربية، التي لا تخفي رغبتها في السيطرة الكاملة على الإنتاج والأسعار.
لم يكن واردا في السابق أن يلتئم اثنان من أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم ـ روسيا والمملكة ـ لأخذ زمام السيطرة على أهم سلعة استراتيجية عرفها العالم.
أن تتفق المملكة مع روسيا ودول أخرى في اتخاذ قرار لحفظ الإنتاج، رغبة في استقرار السوق البترولية، أخذ دولا عظمى على حين غرة.
الدول الغربية القوية اقتصاديا اعتادت على فرض إرادتها. رغم ادعائها أنها تتبنى سياسة اقتصادية ليبرالية منفتحة على الكل، إلا أنها، خصوصا منذ أن دخلنا القرن الـ21، اتبعت سياسة حمائية أساسها حرمان كل من يخاصمها أو حتى ينافسها من السلع الاستراتيجية.
وانظر مثلا التعريفات التجارية من حظر تصدير الرقائق ومعدات أشباه المواصلات والتكنولوجيا الحساسة، وكل ما له علاقة بالثورة الصناعية الحالية الخاصة بالذكاء الاصطناعي والإلكترونيات الدقيقة والأقمار الاصطناعية والأسلحة الذكية التي ترى فيها هذه الدول سلعا استراتيجية يجب احتكارها لحفظ واستدامة تفوقها التكنولوجي والاقتصادي والعسكري.
والنفط سلعة استراتيجية، وتشكيل مسار مستقل لتصديره وإنتاجه ـ وليس حظره كما تفعل الدول الغربية مع سلعها الاستراتيجية ـ صار مطلبا وطنيا، كما هو الشأن مع محاولات تنظيم وإنتاج وتصدير وحظر التكنولوجيا الحديثة من قبل الدول الغربية، التي أحيانا تذهب بعيدا إلى درجة مصادرة الأموال والأصول التي تأتمنها الدول أو الأفراد عليها.
المسار الوطني المستقل في التعامل مع سلعة استراتيجية مثل النفط، المسار الذي تتبعه المملكة حاليا، سيأتي بثمار طيبة وسيعزز المكانة الاستراتيجية للبلد، ويجعل منه محورا قد لا تدور عجلة المحاور الأخرى في العالم دونه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي