عودا على بدء، ذكرت في المقال السابق، أن الطاقة شريان الاقتصاد، ومحرك التنمية، وقلب التطور النابض، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتطور المجتمعات وترتقي في سلم المدنية بمنأى عنها وعن حضرة جنابها.
في رأيي، أن ما يجب على العالم وصناع القرار الالتفات إليه بجدية، والتعاطي معه بمسؤولية، هو ملف الطاقة من حيث سلامة إمداداتها واستدامتها، حيث إن هذا الملف -في اعتقادي- ملف مهم جدا، وأن أي خلل في الخطط الاستراتيجية المرسومة قد تتأثر به بشدة الأجيال القادمة، وإن كان ذلك في المدى المنظور أو بعده. الاستدامة كما ذكرت في مفهوم عميق يتجرد من المصالح الآنية ويتعداها بكثير لحفظ موارد ومقدرات الأوطان لأجيال قادمة لتستقر على جميع الأصعدة، بل تنمو وتسمو. ومن أدق التعريفات التي قرأتها عن الاستدامة، كما ذكرت سابقا، أنها "تلبية حاجات الحاضر دون المساس بمقدرات الأجيال القادمة لتلبية حاجاتها الخاصة". الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة، حذر كثيرا وفي مناسبات مختلفة، من أن محاولة تقويض صناعة المنبع والاستثمار فيها، خطأ استراتيجي فادح قد يدفع العالم بسرعة كبيرة نحو أزمة حقيقية للطاقة وشح في المعروض.
لكل فعل رد فعل، و-في اعتقادي- أن العلاقة بين تقويض صناعة المنبع والاستثمار فيها مع التنمية واستقرار أسواق الطاقة هي علاقة عكسية صرفة، فتقويض صناعة المنبع ومحاربة الوقود الأحفوري، وعلى رأسه النفط، والاستثمار فيه، هو في الواقع تقويض للتنمية والتطور الصناعي والاجتماعي والمدني، فهل يستقيم عقلا أن تتحقق التنمية والتطور والمدنية بمنأى عن الطاقة؟ بحسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، فمن المتوقع أن يرتفع استهلاك الطاقة نحو 50 في المائة 2050 ليصل إلى 900 كوادريليون "مليون مليار" وحدة حرارية، مقارنة بكمية الاستهلاك 2020 التي تبلغ 620 كوادريليون وحدة حرارية. وجل هذا النمو يأتي من الدول الآسيوية، وهذا يعني أن يكون العالم مستعدا لتلبية هذا الطلب المتسارع على الطاقة وفي زمن قصير.
في السعودية -على سبيل المثال- تستحوذ المباني والصناعة والنقل البري والمنافع "استخدام الطاقة في توليد الكهرباء وتحلية المياه" على ما يزيد على 90 في المائة من الاستهلاك المحلي للطاقة، ويستهلك قطاع المباني نحو 75 في المائة من إجمالي الطاقة الكهربائية المنتجة، يشكل استهلاك أجهزة التكييف نحو 65 في المائة منها. لذلك تتحرك الجهات ذات العلاقة تحت مظلة وزارة الطاقة باحترافية وموضوعية وحكمة في التعاطي مع ملف الطاقة داخليا وخارجيا، لتحقيق أهداف استراتيجية تصب بلا شك في مصلحة الوطن والمواطن والأجيال القادمة. من أهم هذه الأهداف استقرار منظومة الطاقة العالمية، واستقرار أسعار الطاقة ومنتجاتها المختلفة، إضافة إلى تعزيز أمن الطاقة العالمي وسلامة إمداداتها وشرايينها. هذه الأهداف ليس كما يحاول البعض التضليل حولها، وأنها أهداف تخدم المنتجين للطاقة فقط، بل هي أهداف تخدم المنتجين والمستهلكين على حد سواء.
العالم بحاجة إلى أن ينصت إلى صوت العقل والحكمة الممثل في "أوبك" بقيادة السعودية، لرفع كفاءة الإنتاج والاستهلاك على حد سواء وتوحيد الجهود لتحقيق ذلك بدلا من تشتيتها في التموضع خلف أجندات سياسية واقتصادية ضيقة الأفق، وخلف شعارات رنانة لن تمد العالم بالطاقة!
