في أواخر العام الماضي وبداية 2023 كانت تقييمات أغلب الخبراء الاقتصاديين لأداء الاقتصاد العالمي في هذا العام سلبية، وساد مناخ عام من التوقعات المتشائمة، وهيمنت نظرة سوداوية بشكل كبير على الجميع، بل إن تقديرات كبريات المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية بشأن الركود المقبل باتت شبه قاطعة. وعنونت مجلة "الإيكونيمست" إحدى أشهر المجلات الاقتصادية العالمية وأكثرها رصانة في عددها الصادر في 18 نوفمبر 2022 "لماذا الركود العالمي أمر لا مفر منه في عام 2023؟".
الآن ومع اقتراب العام من نهايته تبدو الصورة مختلفة إلى حد كبير، فلا يمكن القطع بالقول إن أجواء ربيعية متفائلة تسود بين الخبراء الاقتصاديين وكبار المصرفيين، ولكن على الأقل فإن حدة القلق من وقوع الاقتصاد الدولي في فخ الركود قد تراجعت بشكل كبير.
بالطبع لا يزال الاقتصاد العالمي يعاني مشكلات جمة إلى الحد الذي يدفع الخبراء إلى وصف الوضع الحالي بـ"الأزمات المتعددة" وهو وضع لا يعد فريدا من نوعه، إذ سبق أن عانى الاقتصاد الدولي أزمات متعددة في وقت واحد كما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لكن تلك المرة تختلف مظاهر تلك الأزمات وحدتها، كما أن طبيعتها المتناقضة تجعل من الصعب إيجاد حل أو علاج ناجع لها جميعا في الوقت ذاته، بل إنه في كثير من الأحيان قد يؤدي حل أزمة من الأزمات إلى تفاقم أزمات أخرى.
لكن منبع التفاؤل الحالي أن بعض الاقتصادات الكبرى بدأ يتنفس الصعداء، ولم يثبت قدرته على الصمود فقط، بل الأهم أنه نجح في الهروب من هوة الركود، وكان وقوعه في تلك الهوة كفيلا بأن يجعله يأخذ معه عديدا من الاقتصادات الأخرى وربما الاقتصاد الدولي بأكمله إلى تلك الهوة السحيقة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال تمت السيطرة نسبيا على التضخم الذي بلغ معدلات غير مسبوقة منذ 40 عاما، وتمت السيطرة النسبية دون إلحاق أضرار بالغة بالنمو الاقتصادي ومعدلات التوظيف، بل إن معدلات النمو في عدد من الاقتصادات الناشئة مثل الهند وشرق آسيا تبدو قوية إلى حد ما.
وهنا، لا ينفي الدكتور دي. إس إيدسون أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة لندن أن هناك تفاؤلا نسبيا في الأجواء، لكنه يحذر من أن المظاهر الجيدة للاقتصاد العالمي تخفي بين طياتها عديدا من جوانب الخلل التي تجعل الوضع العام هشا بحيث يمكن أن يختفي التفاؤل بين ليلة وضحاها.
ويقول لـ"الاقتصادية"، إنه "في ظل استمرار الحرب الروسية -الأوكرانية وهي أخطر حريق في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وتباطؤ النمو العالمي، ومعدلات التضخم المرتفعة في أوروبا، فإن الإبحار عبر تلك المخاطر عملية صعبة للغاية ومن شبه المستحيل ألا تصاب أجزاء من سفينة الاقتصاد الدولي مهما حاولت أن تتجنب الصخور والأمواج المتلاطمة".
ويضيف "لتعزيز مناخ التفاؤل لا بد من وضع جدول أعمال دولي بطبيعة التحديات الأكثر خطورة التي يجب التصدي لها سريعا، وربما تكون قضية ارتفاع الدين العالمي بشكل كبير في ظل استمرار حاجة عديد من البلدان إلى زيادة حادة في الاستثمار، ومع ظهور صدوع وشروخ متزايدة في القبول العالمي بفكرة العولمة، يجب أن تكون على رأس جدول الأعمال الدولي لضمان تعزيز الاستقرار الاقتصادي والمالي العالمي".
لذلك تتزايد أعداد الخبراء الذين يدعون إلى أهمية القيام بعملية إصلاح هيكلي عام في السياسات الاقتصادية العالمية للحد من عدم اليقين الراهن، وفي الوقت ذاته بناء منصات للثقة والتعاون الدولي، على أن ترتكز السياسات الجديدة على تعزيز الاستثمار لتحقيق التنمية.
لهذا يرى إم. سبنسر الاستشاري السابق في البنك الدولي أن هناك بصيصا من الامل بفضل الجهود التي تبذلها مجموعة من الاقتصادات الناشئة والرائدة على المستوى العالمي التي تعمل على نقل التعاون الدولي من مرحلة "الحديث" إلى مرحلة "الفعل".
وفي هذا السياق يشير إلى الدور السعودي الباحث عن صياغات دولية جديدة تأخذ في الحسبان المتغيرات الاقتصادية الدولية وتنامي قوة الاقتصادات الناشئة ومساهماتها في الاقتصاد الدولي، على أن يكون المفهوم الأساسي في تنامي تلك القوة قائما على دمجها أكثر وأكثر في الاقتصاد الدولي من خلال تعزيز مفهوم "التعاون" المربح للجميع، وليس الصدام وتوسيع فجوة التناقضات.
ويقول لـ"الاقتصادية"، إن "مذكرة التفاهم التي وقعتها السعودية أخيرا مع عدد من الدول بشأن إنشاء مشروع ممر اقتصادي جديد، تعد نموذجا لهذا التعاون الدولي الذي يعزز مفاهيم الثقة العالمية، ومن ثم يسمح بآليات ملموسة تبعد الاقتصاد العالمي عن حالة عدم اليقين، فالمشروع الجديد يربط بين الهند من جانب وأوروبا من جانب آخر عبر الشرق الأوسط وتحديدا السعودية ليس بوصف المملكة رقعة جغرافية استراتيجية فحسب، وإنما بوصفها اقتصادا عالميا رائدا يمتلك عديدا من المميزات والفرص الاستثمارية العملاقة، وبما يجعل لها دورا محوريا في الجهود العالمية التي تعمل على استغلال كل الفرص المتاحة لإيجاد حالة من اليقين العالمي بقدرة العمل المشترك على إخراج الاقتصاد الدولي من أزمته الراهنة".
مع هذا فإن الرؤية الدولية القائمة على أن الابتعاد عن الركود الاقتصادي والتغلب على الأزمات الاقتصادية المتعددة التي تواجه المجتمع الدولي تتطلب مزيدا من التعاون الجماعي، يجب ألا تنسينا أن ذلك لن يكون كافيا لنزع فتيل التهديدات التي تواجه الاقتصاد العالمي، فعلى صناع السياسات في كل دولة على حدة أن يعملوا على تحسين كفاءة الإنفاق العام وإعادة تخصيص الموارد نحو مشاريع البنية التحتية ذات الأولوية، وتحسين أطر الإدارة ومناخ الأعمال وتبسيط البيئة التنظيمية كشرط أساسي لإيجاد أرضية تمهد لتعاون دولي صحي يقوم على مساهمات إيجابية وحقيقية من الجميع دون أن تتحول بعض الدول إلى عالة على الآخرين الأكثر ثراء.
من المتوقع أن يبلغ متوسط نمو الاقتصاد العالمي هذا العام 2.3 في المائة أي أقل بنسبة 1 في المائة عما كان عليه الوضع قبل جائحة كورونا، وسيكون النمو في 85 في المائة من بلدان العالم أبطأ هذا العام مقارنة بالعام الماضي، ومن بين المحركات الثلاثة للاقتصاد العالمي (الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والصين)، فإن الاقتصاد الأمريكي هو الذي يحقق نموا قويا، بينما الصين وأوروبا تواجهان أوقاتا صعبة، إذ إن النمو في منطقة اليورو متوقف بينما تبدو الصين متعثرة، وحتى الآن فإن التوقعات تشير إلى أنه بنهاية عام 2024 سيظل الناس فيما يقرب من 30 في المائة من الاقتصادات النامية أكثر فقرا مما كانوا عليه قبل جائحة كورونا.
في خضم تلك الضغوط يحذر عدد من الخبراء المصرفيين بأن يؤدي انصباب الاهتمام الدولي على التحديات الاقتصادية إلى غض الطرف عن الأزمات المالية التي يواجهها العالم.
مع هذا فإن المؤشرات الراهنة تشير من وجهة نظر روزي جولياني الخبيرة المصرفية إلى استعداد عالمي من الشركات الدولية وكبار المستثمرين إلى التعامل مع فكرة ارتفاع أسعار الفائدة باعتبارها وضعا مستقبليا سيستمر لبضعة أعوام.
وتقول لـ"الاقتصادية"، إن "المخاوف الدولية التي سادت سواء في المجال الاقتصادي أو المالي بأن يؤدي رفع أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية بوصفه الوسيلة الأساسية لكبح جماح التضخم إلى ردود فعل سلبية من كبرى الشركات الدولية بخفض معدلات التوظيف ومن ثم ارتفاع البطالة لم يتحقق، وهذا عنصر إيجابي لضمان الاستقرار الاقتصادي عالميا".
وتضيف "لكن يصعب القول إن الوضعين الاقتصادي والمالي العالميين قد استقرا، خاصة أن تحقيق معدلات نمو مرتفعة سيكون أمرا صعبا في الأجل القصير، ولن يكون هناك من ضمانة حقيقية للخروج من الأزمات المتعددة إلا بتبني سياسات اقتصادية واعية، تعلي القرار الاقتصادي على غيره من القرارات، وأن تبتعد عن القرارات ذات الطبيعة الشعبوية التي تهدف إلى حل المسائل الآنية وتجاهل القضايا بعيدة الأمد.
وأكدت أن "الطريق المختصر وما به من إغراءات قد يؤدي إلى الإيهام بأن المشكلات الاقتصادية والمالية قد حلت، ولكن في حقيقة الأمر أنها تزداد تفاقما وحدة، بحيث ستطفو على السطح وبشكل عنيف يوما ما وحينها سيكون حلها أكثر صعوبة وأعلى تكلفة".

نجاة الاقتصاد العالمي من هوة الركود .. تفاؤل قد يختفي بين ليلة وضحاها

أضف تعليق