ميناء روتردام الهولندي .. نقطة توزيع استراتيجية لأوروبا يراهن على الرقمنة والبيانات
منذ بداية التجارة البحرية لعبت الموانئ دورا مركزيا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي عالم اليوم يتم نقل 80 في المائة من حجم تجارة البضائع عبر الطرق البحرية، ونسبة كبيرة ومتزايدة من هذا الحجم، نحو 35 في المائة من إجمالي الكميات وأكثر من 60 في المائة من القيمة التجارية تنقل في الحاويات، لذلك تعد موانئ الحاويات نقاطا أساسية في سلاسل التوريد العالمية، وتلعب دورا حاسما في استراتيجيات النمو في الاقتصادات أيا كانت درجة تطورها.
في كثير من البلدان أسهم تطوير البنية التحتية للموانئ ورفع جودة الأداء وكفاءة التشغيل في إنجاح استراتيجيات النمو المعتمدة على الصادرات بشكل فعال، وبتنفيذ تلك الاستراتيجيات بشكل صحيح تعززت الثقة الاقتصادية، فجذبت الاستثمارات المحلية والدولية إلى مجال الإنتاج والتوزيع، ونهضت بالتصنيع وازدهر قطاع الخدمات اللوجستية فأوجد مزيدا من فرص العمل ورفع مستويات الدخل.
لكن بالطبع ليس كل الموانئ سواء، فهناك بعض الموانئ تتعدى أهميتها الاقتصادية والاستراتيجية حدود دولتها، وتصبح بوابة لقارة بأكملها، وتحظى من الاهتمام والأهمية بمكانة بحيث يعد أي خلل أو عطل في قدرتها التشغيلية أو أدائها الوظيفة طامة كبرى لعديد من الاقتصادات والبلدان.
ميناء روتردام في هولندا واحد من تلك الموانئ، فهو هولندي بحكم الموقع لكنه بمعاير الواقع بوابة أوروبا الغربية إلى الخارج، وعلى الرغم من عشرات الموانئ البحرية الأوروبية التي توجد في طول القارة وعرضها، فإن ميناء روتردام ولا جدال أهم وأكبر تلك الموانئ جميعا.
بين عامي 1962 و1986 كان الميناء الهولندي يفخر بأنه أكثر الموانئ ازدحاما في العالم، لكنه مثل كثير من الأشياء في أوروبا طغت عليه الموانئ الآسيوية في سنغافورة وشنغهاي، ورغم فقدانه مكانة الأكثر ازدحاما في العالم، فإنه حافظ على مكانته بوصفه الأهم لأوروبا، فالميناء نقطة توزيع ذات أهمية استراتيجية في القارة، فهو محاط بالمراكز الصناعية ذات الكثافة السكانية العالية وتحديدا منطقة الرور الألمانية وباريس ولندن.
من جانبه، يقدم لـ"الاقتصادية" مارتن ريتشارد أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة جلاسكو، لمحة عن الأبعاد التاريخية التي منحت ميناء روتردام أهميته الراهنة، حيث يقول: "تعود بدايات الميناء إلى القرن الـ13 الميلادي عندما تم إنشاء قرية صيد صغيرة عند مصب نهر روتي، وفي القرن الـ14 أصبح الميناء ميناءا بحريا رئيسا، وبحلول القرن الـ17 الميلادي واكتشاف الطريق البحري المؤدي إلى جزر الهند ازدهر قطاعا التجارة والشحن وزادت أهمية الميناء".
ويضيف: "وفي القرن الـ19 بات يتعامل مع تجارة الإمبراطورية الاستعمارية الهولندية، وأصبح واحدا من أهم الموانئ العالمية، ومنذ ذلك التاريخ بات البوابة البحرية لأوروبا الغربية، وفي ثلاثينيات القرن الماضي أضيفت مرافق البتروكيماويات للميناء، وأصبح أحد مراكز نقل وتجهيز النفط الرئيسة في أوروبا، وهو الدور الذي يقوم به حتى اليوم، فميناء روتردام أكبر مجمع للبتروكيماويات في العالم، ونظرا لتلك الأهمية كانت القوات النازية حريصة على تدمير جزء كبير من مرافقه في الحرب العالمية الثانية. وعند إعمار أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب توسع الميناء، وبحلول عام 1962 تجاوز ميناء نيويورك وأصبح الأكبر في العالم".
مع هذا تم تجاوزه أول مرة عام 2004 من قبل ميناء سنغافورة ثم ميناء شنغهاي وغيرها من الموانئ البحرية الصينية الكبرى، وفي عام 2020 احتل المرتبة العاشرة كأكبر ميناء حاويات في العالم للوحدات المكافئة لـ20 قدما، وحاليا يمتد الميناء على مساحة 42 كيلومترا، عرضه عشرة كيلومترات، ويستوعب 30 ألف سفينة عابرة للمحيطات و130 ألف سفينة نهرية كل عام.
مع تنامي التحديات التي يواجهها ميناء روتردام في الحفاظ على مكانته العالمية المميزة، كان عليه أن يتبنى استراتيجية جديدة تتلاءم مع التغيرات الجارية في مجال تكنولوجيا الموانئ.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية"، المهندس البحري إم. أستون نائب رئيس اتحاد الموانئ البريطانية: "سيقوم ميناء روتردام بإنشاء توأم رقمي للميناء لتتبع تحركات السفن والبنية التحتية والطقس والبيانات الجغرافية والمائية، تلك النسخة الرقمية ستعمل على تحسين الكفاءة والتشغيل الشامل، فبرنامج البنية التحتية الذكية الذي تخطط هيئة الميناء لتطبيقه سيحول الميناء من ميناء فعلي إلى ميناء رقمي، والهدف أن تتمكن السفن من الدخول والخروج من الميناء بشكل مستقل في عام 2030".
ويضيف: "خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها فريق من هيئة الموانئ البريطانية للتعرف على التطورات الجارية في ميناء روتردام، كان من الواضح أنه تم قطع شوط كبير في عملية الرقمنة، فقد تم تحديد أبعاد الأشياء مثل جدران الرصيف أو الرافعات وإدماجها في نظام المعلومات الجغرافية، ويتمثل التحدي الآن في جمع هذه المعلومات وجميع أنواع البيانات الديناميكية مثل الطقس والتدفق والرؤية والرياح في منصة عامة، ومن خلال إنترنت الأشياء يمكن لهيئة الموانئ جمع هذه البيانات في السحابة وإتاحتها عبر وسائل مختلفة.
ولكن لماذا تعد عملية التطوير والانتقال من ميناء فعلي إلى ميناء رقمي خطوة شديدة الأهمية بالنسبة لميناء روتردام؟ لا يعود الأمر فقط إلى ضرورة أن يكون الميناء قادرا على التعامل مع تطورات العصر إذا أراد الاحتفاظ بموقعه كأحد أهم الموانئ البحرية في العالم والأهم في أوروبا، بل مركزية الميناء في النظام الاقتصادي الهولندي تدفعه إلى القيام بعملية التحديث تلك.
من جهته، ذكر لـ"الاقتصادية" راسل سميث الباحث في الاقتصاد الأوروبي: "الميناء بمفرده مسؤول عن ما يراوح بين 500-600 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة في الاقتصاد الهولندي، وقد أسهم بقيمة مضافة تقدر ب 46 مليار دولار أي ما يعادل 6.2 في المائة من الناتج المحلي لهولندا، وهذا يجعل للميناء وضعية مركزية في الاقتصاد الهولندي".
لكن الباحث راسل سميث يشير إلى أن الحرب الجارية في أوكرانيا أدت إلى تغيرات في تدفقات السلع على الميناء، إذ تراجعت بنسبة طفيفة، كما أن حركة الحاويات من وإلى روسيا توقفت فعليا بعد الحرب، وارتفعت واردات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة بنسبة تقارب 64 في المائة كبديل للغاز الروسي، وزادت واردات الفحم بنسبة 18 في المائة بسبب زيادة استخدام محطات الطاقة الألمانية.
ويرجح راسل سميث أن الحرب عملت كحافز لجعل الطاقة والصناعة الهولندية والأوروبية أكثر مرونة، وكان على الميناء بوصفه أحد أعمدة الاقتصاد الهولندي أن يستجيب بسرعة وفاعلية للتغيرات الجارية حاليا ومستقبلا، بما يعنيه ذلك من عمل هيئة الميناء على تسريع مشاريع استدامة الميناء بوصفه شريكا رقميا ذكيا في سلاسل الخدمات اللوجستية لهولندا وأوروبا الغربية.
يراقب العالم التجربة الحالية التي تقوم بها موانئ عدة حول العالم لتحديث ذاتها لتكون جاهزة لمرحلة جديدة من التطور التكنولوجي، لكن تجربة ميناء روتردام تحظى بمكانة خاصة بين جميع الموانئ الأوروبية، حيث يسعى ليكون الميناء الأكثر استدامة وابتكارا مع الاحتفاظ بمكانته في قلب صناعة البتروكيماويات والشحن الأوروبية.