هل تحولت العلمانية الفرنسية إلى فكر متزمت؟

يلاحظ المراقب أن فرنسا تعد استثناء مقارنة بالدول الغربية الأخرى التي تتبع النهج العلماني في إدارة الدولة والنظرة إلى العرق والثقافة والأديان والأجناس البشرية المختلفة.
بوادر العلمانية يربطها كثير من العلماء والمؤرخين بالثورة الفرنسية التي وقعت في نهاية القرن الـ18، وتعد من أهم التطورات التي حدثت في الكون في العصر الحديث.
والعلمانية ما هي إلا فكرة أو موقف سياسي أساسه المساواة وحرية المعتقد للكل بغض الطرف عن الاختلاف.
تهدف العلمانية للوصول إلى أفضل طريقة لإدارة مجتمعات متعددة الثقافات والديانات والأعراق، وتسعى إلى حماية ومناصرة والدفاع عن الحريات المدنية لكل المواطنين دون استثناء بغض النظر عن معتقداتهم الشخصية.
ترفع العلمانية في الأغلب شعاراث ثلاثة: فصل الدين عن مؤسسات الدولة، حرية ممارسة العقائد الدينية، والمساواة ومن ضمنها أن الأديان والمعتقدات الدينية لدى الناس سواسسية مثل أسنان المشط.
نظرة فاحصة على هذه المبادئ التي تختصر العلمانية، فالمفكرون الذين وضعوا أسسها أرادوا منها أن تسمو في توجهها على ما كان سائدا في حينه في أوروبا من تسيد الدين الواحد أو المذهب الواحد وعصمة رجاله ومبادئه وكتبه.
في بداية نشوء مفهوم العلمانية، secularism بالإنجليزية وlaïcité بالفرنسية، كان المراد منه العمل على إيجاد نظام حكم يحترم ويدافع عن حق الناس في حرية الفكر والتفكير وحرية الضمير وما يلحقه من حرية الكلام والكتابة وممارسة ما يمليه الضمير طالما لا يلحق ذلك أذى بالمجتمع.
وإن قرأنا حيثيات العلمانية كفلسفة أو مفهوم لرأينا أن مسألة بقاء الدولة أو نظام الحكم محايدا وبصرامة، وذلك من خلال عدم التدخل في طريقة تفكير الناس وما تمليه عليهم ضمائرهم، تعد العصب الذي بدونه لن تفلح أي ديمقراطية ليبرالية. بيد أن الفلسفة هذه انحنت أمام ضغط المصالح الحزبية والفئوية في الغرب، حيث تم تحشيد وتجنيد الليبرالية لكي تخدم مفهوم المساواة الذي يوائم أصحاب هذه المصالح، وصاروا هم يحددون الفئات داخل نطاق المجتمع من التي يحق لها المساواة، والفئات التي لا يحق لها المساواة.
فالمساواة، التي هي لب العلمانية، أخذت منحى واحدا وهو مساواة الرجل بالمرأة ومن ثم مساواة الميول الجنسية لدى البشر كيف أتت ومهما كانت، حتى إن تعارضت مع القيم الثقافية لدى الآخرين.
وأقحموا الأديان ضمن المعادلة هذه. فأي دين يعارض التوجه العلماني الحديث في فرنسا مثلا هو عدو المساواة وعدو العلمانية لا بل عدو الدولة ونظامها الليبرالي الديمقراطي.
كان من المفروض على العلمانية الفرنسية مثلا، التي تتخذها الدولة نبراسا للحكم، أن تؤمن بمساواة القيم الثقافية والدينية بغض الطرف إن أتت متناقضة أو متعارضة مع القيم التي تتبناها الحكومة.
كانت العلمانية الفرنسية من أشرس المدافعين عن حرية ما يلبسه الناس ولم يكن لون القماش أو قصره أو طوله أو حجمه أو المدى الذي يغطي بدن الإنسان مشكلة.
‏Laïcité الفرنسية معناها أن الإنسان حر في التعبير عن فكره وضميره من خلال الكلام واللباس والكتابة والممارسة ما دام لا يشكل ذلك تهديدا أو خطرا على المجتمع.
فرض نمط من التفكير والمعتقد وطريقة ممارسة المعتقد والتفكير يضرب العلمانية كفكر ومنهج للحكم في الصميم.
رأينا كيف أسهمت العلمانية في إحداث تغييرات جوهرية في المجتمعات الغربية التي أظهرت درجات كبيرة من التسامح لظهور حركات ومجموعات فكرية وفنية وثقافية عجيبة وغريبة، خصوصا منذ بداية الستينيات من القرن الماضي حتى اليوم.
هناك في الغرب حركات دينية لم ينزل الله بها من سلطان، مع ذلك تمارس فكرها ومعتقدها وترتدي ما تشاء من لباس وتؤدي طقوسا غريبة، مع ذلك لها من المساواة ما لدى التيارات الدينية السائدة.
من دون كل هذه التيارات، ادعت العلمانية الفرنسية أن الإسلام أو المسلمين في حاجة إلى من ينقذهم خصوصا النساء في صفوفهم من ظلم الرجال، وأن المساواة التي تنادي بها العلمانية لا تنطبق على المجتمعات الإسلامية التي صارت خطرا على الديمقراطية الفرنسية.
هكذا زاغت العلمانية الفرنسية عن مبدأ المساواة وحرية ممارسة المعتقد وصارت علمانية متزمتة شأنها شأن أي فكر متزمت يرى في فكر وممارسة الآخر خطورة عليه.
العلمانية الفرنسية متزمتة والخشية هي أن يشع هذا التزمت على دول غربية أخرى، وإن حدث ذلك سيفقد الغرب ليس فقط علمانيته بل أسسس المساواة التي بنى مجتمعاته المتمدنة عليها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي