القوة المعرفية والآلة الإعلامية
أصبح للفرد والجماعات في عالمنا اليوم سهولة الحصول على الأخبار في أي مكان يحل فيه، في ظل كثرة الأخبار وتزاحمها وانتشار وسائل الإعلام بأنواعها كافة، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف في درجة موثوقية هذه الوسائل. وما من شك في أن المرء يقف عاجزا في بعض الأحيان إزاء هذه الأخبار من حيث تأكيد مصداقيتها، إذ معطيات الواقع من حيث استمرار الحياة في رتابتها على مستوى دول العالم، من حيث الخصوصية والعمومية، في تلقي مصداقية الأخبار. وعلى سبيل المثال، أعلن كثير من الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا، أن توقف إمدادات الغاز الروسي بسبب الموقف الأوروبي من الحرب الروسية - الأوكرانية، المنحاز لأوكرانيا، وتفجير خط الغاز الشمالي، تسببا في نقص الطاقة، واضطرار الدولة، والشركات إلى إغلاق مصانعها، وصور الإعلام الوضع بالكارثي، لكن بلغة الأرقام تثبت الأخبار خلاف ذلك.
كما بثت وكالات الأنباء خبرا عن شركة فولكسفاجن، أنها ربحت في الربع الأول من 2023 "5.8" مليار يورو، أما شركة إيرباص لصناعة الطائرات فقد ربحت في النصف الثاني من العام نفسه 8.1 مليار يورو، نتيجة ارتفاع الطلب. وفي مثل هذا التناقض يحار المرء في تقييم الموقف، لما لذلك من تأثير في الاقتصاد العالمي، وما بين الدول، وكذلك الأسعار من قبل الدول، والشركات المستوردة. والسؤال المنطقي: إذا كانت روسيا قد أغلقت أنبوب الغاز عن أوروبا، فكيف عوضت الدول ليس نقص الغاز، بل افتقاده كلية، إذا علمنا أن بعض دولها لا تنتج الغاز؟!
الموضوع الآخر المحير لغرابته، ما ذكرته الأخبار من أن خبراء المناخ في أمريكا ذكروا أن درجة حرارة الطقس خلال شهر يوليو لهذا العام ارتفعت بمستوى لم تبلغه منذ 125 ألف عام، ووجه الاستغراب هنا ليس ارتفاع درجة الحرارة، فكل شيء ممكن، إنما الاستغراب مرده هل إنسان ما قبل 125 ألف عام لديه الأدوات، والأجهزة التي تمكنه من قياس درجة الحرارة بشكل يومي، وعلى مدى هذه الأعوام؟! فأنا أستبعد ذلك، إذ لم يكن التقدم المعرفي والتقني للإنسان قد بلغ هذا المستوى، وهذا لا يعني عدم اهتمامه بالمناخ، وظروف الطقس، فهذا أمر محتوم، ليتكيف مع التغيرات الجوية من برد، وحر، وأمطار، ورياح، وغيرها.
ولو سلمنا جدلا بوجود تقنية قياس درجة الحرارة في ذلك الزمن السحيق، فهل دون الإنسان القراءات بشكل يومي، وحسب الشهر، والعام، وكيف دونها، هل على الصخور، والجلود، والأخشاب؟ وهل هذه المعلومة خاصة ببلد، أم على مستوى الكرة الأرضية؟ وأين احتفظ بهذه المعلومات وكيف تمت أرشفتها؟ وكيف تمكن خبراء المناخ الأمريكان من الوصول إلى هذه المعلومات؟
الأمم السابقة تركت آثارا كثيرة -لا شك في ذلك- إلا أن ما تركته أشياء محسوسة تتمثل في الأواني، والعملة، واللباس، وأدوات الحرب، والزراعة، وكل ما هو مرتبط بتدبير الحياة اليومية ببساطتها، وبما يتناسب مع ظروف المرحلة التاريخية، وهذا ما توصل اليه الآثاريون في المدن التي طمرتها الأتربة، ولا غرابة في ذلك لطبيعة تلك المواد، أما متابعة ظروف المناخ بالشكل الذي يوحي به الخبر، فهذا على أقل تقدير محل تساؤل، إن لم يكن محل شك.
أعتقد أن الأخبار السابقة التي تم عرضها، وغيرها مما تبثه وسائل الإعلام تقع ضمن دائرة الحرب الإعلامية، أي حسب المثل القائل "نصف الحرب دهولة"، سواء للإضرار بصورة الطرف الآخر، أو لتلميع الذات، ورسم كاريزما وطن، من خلال الإمساك بزمام القوة المعرفية، التي لا شك أن لأمريكا فيها نصيب الأسد في الوقت الراهن، ويجاريها في ذلك بعض الدول المهتمة بقوة الآلة الإعلامية، لتحقيق الغرض نفسه.