تقارير و تحليلات

التصنيع الأمريكي عند منعطف التنشيط .. هيكلة ركيزتها الابتكار لاستعادة المكانة المفقودة

التصنيع الأمريكي عند منعطف التنشيط .. هيكلة ركيزتها الابتكار لاستعادة المكانة المفقودة

التصنيع الأمريكي عند منعطف التنشيط .. هيكلة ركيزتها الابتكار لاستعادة المكانة المفقودة

في العقود الأخيرة بدت الولايات المتحدة الأمريكية كأنها معرضة لخطر فقدان مكانتها باعتبارها اقتصادا صناعيا رائدا على مستوى العالم، وبينما نما الناتج المطلق للبلاد خلال القرن الحالي، انخفضت حصتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي للصناعات التحويلية، وتباطأ نمو قطاع التصنيع فيها بشكل كبير من 4.9 في المائة في تسعينيات القرن الماضي إلى 1.4 في المائة في العقدين الماضيين.
وفي الواقع فإن النمو الذي تحقق في الـ20 عاما الماضية لا يعود الفضل فيه إلى الإنتاج المادي بل إلى مجالات مثل التصميم والخدمات والبرمجيات، وقد انخفض عدد شركات التصنيع والمصانع في الولايات المتحدة بنسبة 25 في المائة نتيجة الإغلاق.
لكن الوضع يتغير الآن، وتعود الولايات المتحدة للسيطرة على زمام الأمور في مسعى حثيث وسريع لاستعادة ما فقدته في مجال التصنيع، فالاقتصاد الأمريكي يشهد حاليا طفرة في بناء المصانع ويشهد الإنفاق على عمليات تشييد المصانع ارتفاعا كبيرا، ويعود الفضل في تلك الطفرة إلى تشريعين أقرهما الكونجرس العام الماضي، أحدهما يتضمن حوافز استثمارية ضخمة لإنتاج أشباه الموصلات، بينما يتضمن الآخر حوافز لعناصر مثل إنتاج السيارات الكهربائية أو التشجيع على استخدام المنتجات الصناعية المحلية.
ويهدف التشريعان جزئيا إلى بناء القدرة التصنيعية الأمريكية، وعلى الرغم من أن التبعات الاقتصادية النهائية لتلك التشريعات ستستغرق أعواما قبل أن تظهر نتائجها، إلا أن المؤشرات الأولية تبدو إيجابية بل وتفوق التوقعات.
لا يزال بعض الخبراء يلقون بالمسؤولية على وباء كورونا في توجيه ضربات مؤلمة لكل جوانب الحياة الأمريكية، وجزئيا لعرقلته الصناعات التحويلية، ففي عام 2022 كان الوباء كفيلا بمحو 578 ألف وظيفة في مجال التصنيع الأمريكي.
يقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور جاستين هارولد أستاذ الاقتصاد الصناعي في جامعة برمنجهام "كانت أمريكا تتمتع بسياسة صناعية متينة وذات طبيعة مستدامة، ما جعلها القوة التصنيعية الأولى على مستوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية، لكن منذ سبعينيات القرن الماضي بدأت في إهمال قطاع التصنيع، ولم تمنحه الأولوية التي كان يتمتع بها سابقا، وكشفت جائحة كورونا الثغرات ونقاط الضعف الناجمة عن تراجع التصنيع الأمريكي، خاصة مع المشكلات الصعبة التي منيت بها سلاسل التوريد عالميا، إذ لم يفلح الاقتصاد الأمريكي في تلبية احتياجات مواطنيه من سلع مهمة مثل بعض أنواع الأدوية والمستلزمات الطبية، وحتى اليوم لا تزال أمريكا تعاني نقصا في رقائق أشباه الموصلات".
ويضيف "على الرغم من الضربات التي وجهها الوباء للقطاع الصناعي الأمريكي بخفض أعداد العاملين، إلا أنه جعل الإدارة الأمريكية والكونجرس، يعملان على تعزيز القوة الصناعية الأمريكية والابتكار التكنولوجي، بحيث عاد شعار (صنع في أمريكا) إلى الواجهة مجددا".
لا ينفي الخبراء وجهة النظر أعلاه، إلا أنهم أكثر ميلا إلى أن الطفرة التصنيعية الراهنة في الولايات المتحدة تعود إلى إدراك المسؤولين أن مكانتها العالمية مرتبطة أكثر بقدرتها التصنيعية، كما أن للتصنيع تأثيرا أكثر إيجابية في الاقتصاد الكلي من القطاعات الأخرى.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" إن. دي. جورج أستاذ الاقتصاد الأمريكي في جامعة لندن "في الولايات المتحدة يمثل التصنيع 2.3 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل فيه 12 مليون شخص، ويدعم مئات الاقتصادات المحلية، ويمثل 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي و8 في المائة من العمالة المباشرة ويسهم في 20 في المائة من استثمار رأس المال في البلاد، و35 في المائة من نمو الإنتاجية و60 في المائة من الصادرات و70 في المائة من البحث والتطوير في مجال الأعمال. تلك المعدلات تجعل هذا القطاع أحد الركائز الأساسية للاقتصاد الأمريكي".
ويعتبر إن.دي.جورج قطاع التصنيع الأمريكي وصل الآن إلى انعطافة مهمة، مبينا أن القطاع شهد قبل أزمة كوفيد بعض التعافي من عثرات سابقة، إذ تمت إضافة 1.3 مليون وظيفة صناعية إلى الاقتصاد بين 2010 - 2019، بعد أن خسر القطاع الصناعي 5.8 مليون وظيفة خلال العقد الأول من القرن الحالي، كما أن النجاحات الصناعية الأمريكية الحالية ستؤدي إلى تحسن مرونة الاقتصاد الكلي، ومع استعادة النمو والقدرة التنافسية في الصناعات التحويلية الرئيسة من الممكن أن تعزز الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بأكثر من 15 في المائة من الآن حتى عام 2030.
وبالفعل فإن مراكز أبحاث دولية أشارت في تقارير لها إلى أن التحول الفعال في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة يمكن أن يسهم في تعزيز الناتج المحلي الإجمالي بما يراوح بين 275 مليار دولار إلى 460 مليار دولار، إضافة إلى 1.5 مليون فرصة عمل، مع الإشارة إلى أنه في أغلب الأحوال توظف الصناعة شريحة أوسع من المتوسط من إجمالي السكان، ولا تحتاج إلى موظفين يحملون شهادات جامعية، ويمكن للعاملين في قطاع التصنيع أن يكسبوا ضعف ما يكسبه أولئك الذين يشغلون وظائف مماثلة في قطاع الخدمات.
ويرجح البعض أن يؤدي التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين إلى مضي الولايات المتحدة قدما في تعزيز سياساتها الراهنة بإعادة الاهتمام بالقطاع الصناعي ككل، وليس فقط الصناعات فائقة التكنولوجيا، حيث يزداد الشعور لدى صانعي القرار الاستراتيجي الأمريكي بأن السياسات التي اتبعتها واشنطن لعقود بنقل عديد من الصناعات إلى الأراضي الصينية، تحت دعاوي متعددة منها انخفاض تكاليف الإنتاج، أو أن ذلك يسمح بإعادة توزيع الموارد المالية والبشرية بما يعزز تخصص الولايات المتحدة في الصناعات الأكثر تطورا، أو حتى مكافحة التلوث بتحويلها من مشكلة أمريكية إلى مشكلة صينية، قد عادت بعواقب وخيمة على الولايات المتحدة اتضحت تداعياتها بشكل كبير خلال جائحة كورونا والمشكلات الحادة في سلاسل التوريد والإحساس العام بأن تلبية احتياجات المستهلك الأمريكي باتت مرهونة بمواصلة الصين الحفاظ على لقب "مصنع العالم".
ويدرك عديد من المسؤولين الحكوميين أن انحدار الصناعة التحويلية في الولايات المتحدة أسهم في اتساع فجوة التفاوت مع البلدان الصناعية الأخرى وإضعاف القدرة التنافسية العالمية للبلاد، ومن ثم بات تنشيط التصنيع أمرا ضروريا لتحقيق النمو المستدام والشامل، إلا أن إعادة تنشيط التصنيع في الولايات المتحدة ستتطلب التركيز على الابتكار والتميز، وهو ما يدفع بمايكل توماس الخبير الاستثماري إلى القول "إن الاهتمام الأمريكي بإحياء عديد من الصناعات قد يتطلب إعادة النظر في النماذج التي هيمنت على تطور الصناعة لعقود من الزمن، بهدف جعل التصنيع أكثر استدامة وأكثر رقمية ومهارة ومرونة".
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن نجاح الاستراتيجية الأمريكية لإعادة إحياء الصناعة سيتطلب مجابهة مجموعة من العوامل التي تمثل تحديا لا تجب الاستهانة به، وهو تحدي الطاقة بهدف التحول إلى مصادر منخفضة الكربون، وهذا تحد اقتصادي وفني في آن واحد، خاصة بالنسبة إلى قطاعات الصناعات الثقيلة كثيفة الاستخدام للطاقة مثل صناعة الحديد والصلب، لكن يجب أن نشير إلى أن عملية التحول في مجال الطاقة ستوفر فرصا كبيرة للمصنعين الأمريكيين، اذ سيرتفع الطلب على معدات توليد الطاقة المتجددة الجديدة بنحو أربعة أضعاف بحلول عام 2050".
ويضيف "في جميع أنحاء العالم تعمل الصناعة على زيادة استثماراتها في مجالات التكنولوجيا الرئيسة، وعلى سبيل المثال من المتوقع أن تنمو صناعة الروبوتات بنحو 50 مليار دولار بنسبة 6 في المائة سنويا في الأعوام الثلاثة المقبلة، والشركات الأمريكية ستستفيد من تلك الموجة من الابتكارات التي ستعززها الابتكارات الرقمية، خاصة مع قيام أسواق رأس المال باستثمارات كبيرة في هذا المجال".
لكن بالنسبة إلى أغلب الخبراء فإن قضية إعادة تنشيط الصناعة الأمريكية ستكون لها انعكاسات في الأمد الطويل على كل من الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية. فالتحول الأمريكي نحو مزيد من التصنيع سيؤدي في الغالب إلى إطلاق العنان لموجة من الهيكلة في شبكات التصنيع عبر العالم، وتطوير لشبكات سلاسل الإمداد لتكون أكثر مرونة من الشبكات الراهنة التي تكشف ضعفها خلال جائحة كورونا.
بدورها، تقول لـ"الاقتصادية"، الدكتورة سوزن أندروا أستاذة التجارة الدولية في جامعة كامبريدج "استعادة قطاع التصنيع في الولايات المتحدة قدرته الإنتاجية وحيويته التاريخية، ستؤدي حتما إلى انعكاسات اقتصادية على عديد من الدول الحليفة للولايات المتحدة سواء عبر المحيط الأطلسي أو أمريكا الجنوبية، فموجة جديدة من التصنيع في الولايات المتحدة ستؤدي إلى تسونامي في عديد من الاقتصادات الناشئة التي ستعيد هيكلة اقتصاداتها التصنيعية لتتلاءم مع تلك الهجمة الأمريكية، وبينما ستندثر بعض الصناعات في الاقتصادات الناشئة لعدم قدرتها على منافسة الصناعات الأمريكية، ستستفيد مجموعة أخرى بالتخديم على الصناعات الأمريكية من خلال مدخلات الإنتاج، وسينجم عن ذلك تحول في التجارة الدولية عبر المناطق والأقاليم المختلفة، بما يمكن أن يسهم -وفقا لبعض التقديرات- بزيادة بنحو 4.6 تريليون دولار في التجارة العالمية خلال الأعوام الخمسة المقبلة".
مع هذا سيظل نجاح سياسات التصنيع الأمريكية مرتبطا بالقدرة على إعادة هيكلة سلاسل التوريد الخاصة بها لتعزيز قدرتها على تلبية الاحتياجات المحلية، والسيطرة على تكاليف الإنتاج لتكون أكثر قدرة على تعزيز قدرتها التنافسية في مواجهة منافسيها الدوليين، خاصة السلع الصينية والاقتصادات الناشئة من جنوب وجنوب شرق آسيا، وستكون عليها المواءمة مع التحديات التي تواجهها من خلال خطط تمويل وتوظيف مبتكرة أكثر قدرة على الإسراع بتنشيط القطاع الصناعي الأمريكي لاستعادة مكانته الدولية التي تراجعت في العقود الأخيرة.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات