بعد عقود من السكون .. التضخم يطل من جديد «5»
إن التضخم السريع الذي أعقب جائحة كوفيد - 19 جعل البنوك المركزية تدرك أن وقت الشعور بالقلق من احتمال الانكماش قد مضى، وعاد القلق من احتمال أن يتجاوز التضخم مستهدفات البنوك المركزية على المدى المتوسط.
لقد استوعبت البنوك المركزية جيدا دروس أزمة 2008، التي جعلتها تتخلى عن منهجها التقليدي في التعامل مع توقعات التضخم. وكان هذا التحول الفكري مسؤولا إلى حد كبير عن التشخيص المبدئي الخاطئ لخطر التضخم أثناء الجائحة. فقد عدت البنوك المركزية أن التغلب على التضخم الذي حدث في الثمانينيات أمر مسلم به، وهو ما جعلها تفترض أن التوقعات التضخمية ستظل دائما على درجة جيدة من الثبات حول الركيزة المستهدفة. ومن منطلق هذا الافتراض، اعتقدت هذه البنوك أنه من الممكن السماح للاقتصاد بأن يصل إلى السخونة -أي ترك معدل البطالة يهبط إلى أدنى مما يعرف بالمعدل الطبيعي "أو غير التضخمي"- دون تحمل كثير من المخاطر. وعدت أيضا أنه من الآمن أن تقدم السياسة النقدية تعهدات للمدى الطويل "كأن تصدر توجيهات مسبقة بأنها ستبقي أسعار الفائدة منخفضة في المستقبل"، لأنه لم يبد من المرجح أن تكون لتلك التعهدات تداعيات تضخمية على المدى الطويل. إلا أن مثل هذه التعهدات يمكن أن تضر بالتوقعات إذا لم تتمكن من الوفاء بها في المستقبل. وإضافة إلى ذلك، فإن خشية الانكماش دفعت البنوك المركزية إلى اتباع منهج قائم على البيانات في التعامل مع السياسة النقدية تسبب عمدا في تأخير أي تشديد للسياسة. ولضمان ألا يتوقف الناتج الاقتصادي قبل الأوان، كانت البنوك المركزية تمتنع عن رفع أسعار الفائدة حين تتوقع ارتفاع التضخم في المستقبل "لنقل، مثلا، لأنه كان من المتوقع أن يحدث انخفاض البطالة عن المستوى الطبيعي فورة في النشاط الاقتصادي". وبدلا من ذلك، كانت تنتظر إلى أن يتحقق التضخم قبل أن تبدأ التحرك.
واتخذت البنوك المركزية أيضا منهجا متراخيا في التعامل مع صدمات العرض. فالنماذج الاقتصادية المعتاد استخدامها في البنوك المركزية في الأغلب ما تفترض أنه ينبغي للسياسة النقدية ألا تحيد التضخم المترتب على صدمات العرض تحييدا كاملا، لأن هذا النوع من التضخم ما هو إلا عارض مؤقت "ينتهي مع زيادة العرض"، وأن سياسة أسعار الفائدة تهدف إلى السيطرة على الطلب الإجمالي. أما الحجة التقليدية، فهي أن البنوك المركزية يجب أن تقيم منافع تهدئة التضخم المؤقت في مقابل تكاليف كبح النمو الاقتصادي. غير أن عدم التحرك لمواجهة صدمات العرض باتخاذ خطوات لخفض الطلب يمكن أن يتسبب في زعزعة استقرار ركيزة التضخم ومنع البنوك المركزية من تحقيق أهدافها في المستقبل. ومن المفارقات أن الحرب في أوكرانيا عززت ركيزة التضخم، لأنها وفرت للبنوك المركزية غطاء لتفسير سبب هذا الارتفاع الكبير في التضخم.
ولا يبدو حتى الآن أن الإطار الفكري الذي اعتمدته البنوك المركزية بعد أزمة 2008 قد أبعد التوقعات التضخمية عن حدودها المستهدفة. إلا أنه سيكون من المكلف الانتظار إلى أن يبدأ انفلات هذه التوقعات عن ركيزتها لكي يبدأ تغيير هذه الإطار. وظهرت إشارات إنذار بالفعل في أحدث بيانات التوقعات التضخمية. ومن شأن فقدان ركيزة التضخم، بما يصاحبه من عدم يقين لدى المستهلكين ومؤسسات الأعمال، أن يعرقل الطلب والعرض الكليين. وستكون لهذا عواقب مهمة على كل من البنوك المركزية -لأنه سيعوق قدرتها عن السيطرة على التضخم- والنشاط الاقتصادي، لأن المستهلكين والشركات سيترددون في الشراء والاستثمار.
لمواجهة هذه المشكلات، ينبغي للبنوك المركزية أن تعود إلى اتباع منهج نقدي تتمثل أولويته القصوى في تحقيق استقرار التوقعات التضخمية، فالسياسة لا يمكن تشديدها إلا بعد حدوث التضخم. والأولى من ذلك هو أن تتحرك البنوك المركزية لاتخاذ اللازم فور ظهور إشارات الإنذار. ويتعين على البنوك المركزية أن تجمع بين توقعات قطاع الأسر والأسواق المالية بشأن التضخم في المستقبل، لأن هذه التوقعات هي التي تشكل كلا من أوضاع الطلب الكلي وأسعار الأصول.