تميز الخدمات والحلقة المفقودة
نشأ عهد جديد من الرخاء عقب الثورة الصناعية، سيطرت فيه الخدمات على تبادل القيمة، إذ دفع التقدم التقني من تطور سوق الخدمات بشكل ثوري، وأسهمت العولمة وأساليب التوريد الحديثة وتوقعات وعادات المستهلكين في ذلك. لهذا نشأت لاحقا اقتصادات كاملة تعتمد على الخدمات بشكل أكثر من الصناعات التقليدية وتحقق نتائج لا يمكن تجاهلها. لكن حتى في الاقتصاد الذي لا يقوم بشكل كامل ومدروس على الخدمات، تشكل الخدمات أساسا من عملية تبادل القيمة الاقتصادية وتحقيق مبتغيات المستهلكين ومستهدفات الأعمال.
ومع ذلك نجد أن كثيرا من مقدمي الخدمات يفتقدون الحرص على تقديمها بالشكل المطلوب، الشكل المطلوب الذي يحقق رضا العميل، والشكل المطلوب الذي يحقق القيمة لمنشأته. لهذا تطورت في العقود السابقة فكرة التميز الخدماتي service excellence التي تقوم على تحويل الخدمات إلى أجزاء يمكن السيطرة عليها "عمليات"، عن طريق تصميمها وتنفيذها وقياسها ومن ثم تطويرها بشكل مستمر.
ومع المنافسة فتح باب كبير يختص بجودة الخدمات الذي يضع الخدمات في خانة المعايرة والمواصفات تماما مثل المنتجات، ويقلل من الأخطاء ويعالج الشكاوى والتقلبات التي قد تضر بتقديم القيمة المستهدفة. يلعب العميل هنا دورا مهما ومحوريا، فتغيير توقعاته يؤثر في مستوى الخدمة المستهدف، ورضاه محدد ومعرف للقيمة المنشودة للخدمة.
تطورت المفاهيم والممارسات الخاصة بذلك وشملت عملية استعادة الخدمة حين تعثرها، وإدارة المخاطر المتعلقة بالاستمرارية. واستمر تطور الممارسات ليشمل تجميع العمليات وإدارتها بشكل كلي مؤتمت مثل الـomnichannel services والدمج وغير ذلك. ونشأت عن ذلك خدمات مصاحبة أخرى مثل خدمات التأكد من الجودة service & quality assurance وخدمات الاعتماد والتأهيل. وبالطبع شكلت المعرفة المرتبطة بذلك أساسا قويا وكبيرا يسمح باكتشاف الثغرات ونقاط الضعف ويساعد على التطوير، لذا تطورت كذلك علوم البيانات المرتبطة بذلك وتطورت أساليب فهم السلوكيات والعادات والتفاعلات ذات العلاقة.
خلاصة الأمر، حياتنا كلها مرتبطة بتقديم واستقبال الخدمات، وتحقيق الهدف بالشكل المطلوب مكتنز بكثير من الممارسات الناضجة التي تحقق تميز الخدمات. لكن على الرغم من كل ذلك، تظل مستويات تقديم الخدمات في كثير من المنشآت متأخرة للغاية، إذ يعوزها كثير من الخدمات وعوامل النقص الأساسية في إدارتها.
قليل من الشركات تقدم اليوم خدماتها بالتوافق مع مفاهيم جودة وتميز الخدمات وتنال رضا العملاء في الوقت نفسه. جزء لا يستهان به من القيمة والفرص المستقبلية يضيع فعليا بسبب تغاضي المسؤولين في هذه الشركات عن الممارسات الملائمة لذلك. يسهم هؤلاء في تردي الخدمات وضياع الفرص المستقبلية. بل إنهم يقومون بكسر منحنى التعلم لموظفيهم والقطاعات التي تتأثر بذلك.
قد يكون النظر إلى الموضوع من زاوية الوعي الذاتي داخل المنظمة مفيدا جدا، فهل ينظر القادة والموظفون في فريق العمل إلى ما يقدمونه من خدمات بشكل نقدي وشامل وصادق، هل يسألون أنفسهم عن جودة ما يقدمون، هل ينظرون إلى تقسيمهم وتصنيفهم للخدمات ويقارنون ذلك بنظرة العميل، هل يقيسون الواقع ويفهمونه، هل يستخدمون البيانات الدقيقة التي تعكس مستوى الخدمات وتعكس قدراتهم التشغيلية وتعكس درجة استجابة العملاء لما يتم تغييره، هل يقسمون الخدمات ويصنفونها بشكل قابل للمعايرة والتجويد والتنظيم والقياس؟
ويعتقد كثيرون من القادة أن هناك مخاطر متأصلة تصعب تنفيذ هذه الجوانب التحسينية. فيقولون مثلا: طبيعة الخدمة تجعل القياس الدقيق مستحيلا. وهذا في نظري مجرد تبرير لعجزهم وكسلهم. من يقدم خدمة ما يقدم وعدا للآخرين بالأداء. وكل وعد يقابله توقع، وكل توقع له آليات تناسبه.
تقدم اليوم الحلول التقنية والتنظيمية الكثير وتمتلئ المكتبات وقواعد البيانات ودور الخبرة بالنصائح والمعارف، لكن قل من يخطو الخطوة الإضافية التي تنقله وتنقل فريقه ومنشأته، وتجعلهم أقرب إلى العميل وأقرب إلى الاستمرارية والبقاء.