ابتكارات السعودية .. الأبحاث إلى منتجات
الابتكار هو القوة الدافعة الأساسية للتنمية المستدامة طويلة الأجل للاقتصاد، لذلك تحرص الدول المتقدمة على وضع الابتكار العلمي والتكنولوجي، كداعم استراتيجي لتحسين الإنتاجية الاجتماعية والقوة الوطنية الشاملة، بل في قلب التنمية الشاملة للدولة، فمثلا أعلنت الولايات المتحدة في 2006 مبادرة التنافسية الأمريكية من أجل تشجيع مزيد من الابتكار العلمي وتعزيز قدرة الولايات المتحدة على المنافسة في الاقتصاد العالمي. ويتمثل أحد المكونات الرئيسة للاستراتيجية الرئيسة الشاملة في دعم "الأفكار الرائدة التي تولدها العقول المبتكرة" من خلال مضاعفة الالتزام الفيدرالي ببرامج البحث الأساسية الأكثر أهمية في العلوم الفيزيائية خلال الأعوام العشرة التي تلت، واستجابة لذلك قام المجلس الوطني الأمريكي للعلوم في 2007 بإنشاء فريق معني بالبحوث التحويلية من أجل تحديد وتمويل الابتكارات. وفي الإطار نفسه، أكدت منظمة الأونكتاد أن التنمية الاقتصادية تتضمن بشكل أساسي عملية تحول هيكلي يرتكز على التعلم التكنولوجي والابتكار وبدونهما لا يمكن توسيع القاعدة الإنتاجية لبلد ما أو تنويعها، ويمكن أن ينبع من التقدم التكنولوجي القائم على العلم، أو من اكتساب المعرفة التكنولوجية الحالية وتكييفها ونشرها، فدونه يتوقف نمو الإنتاجية ويصبح الدخل طويل الأجل وتحسين الرفاهية مستحيلا.
ووفقا لهذه المنطلقات والأسس، أكدت رؤية السعودية 2030 على مكانة ودور الابتكار في تحقيق نمو اقتصادي مستدام، ويعد مشروع نيوم، أحد أكبر المشاريع السعودية اليوم، نموذجا لما يمكن أن يقوم به من تحولات عميقة في بنية الاقتصاد الوطني، والمناطق الرئيسة التي يتم إنشاؤها اليوم، سواء مدينة ذا لاين أو أوكساچون، تقدم نماذج جديدة للحياة، ولتحقيق هذا، فإن الأمر يتطلب استدامة في الابتكار ودوره في بناء الاقتصاد، لذلك أطلق الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس أمناء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية مطلع هذا الأسبوع، الاستراتيجية الجديدة للجامعة، من أجل تعزيز بنية الابتكار من خلال تحويل العلوم والأبحاث إلى ابتكارات ذات مردود اقتصادي مع التركيز على الأولويات الوطنية للبحث والتطوير والابتكار، وهي صحة الإنسان، واستدامة البيئة، والطاقة المتجددة، واقتصادات المستقبل، إضافة إلى تعزيز الشراكات الدولية والمحلية المثمرة، والشراكة مع القطاع الخاص.
من الجدير بالذكر أن هذه الخطة الاستراتيجية للجامعة تأتي في سياق اهتمام السعودية بالابتكار ودوره الأساس في الاقتصاد الوطني، فقد سبق وتم إطلاق الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، التي تعد أحد ممكنات تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، التي رسمت منهجية ومسارا واضحا منذ لحظة توليد الأفكار وانتظام العناصر الأخرى التي لا تقل أهمية، وهي إدارة الأفكار وتوفير الموارد لتحقيقها على أرض الواقع ثم العمل على استثمارها مع حمايتها في آن معا، كما وضعت التعاون والتكامل بين الجهات الوطنية مرتكزا أساسيا بوصفها شريكا أساسيا لدعم الابتكارات والإبداعات ونمو الاستثمارات، وفق إطار حوكمة يحدد الأدوار والمسؤوليات التي تتضمن اتخاذ القرارات بشأن القضايا المهمة المتعلقة بتنفيذ مشاريع الاستراتيجية وتوفير الدعم لها.
فالجهود التي بذلت في مسار الابتكار واضحة وجلية، ولم يسبق في السعودية أن وصل الاهتمام في الابتكارات وصياغة حوكمة لقطاع كامل متسق الأدوار إلى هذا المستوى الكبير، فهناك اليوم سوق قائمة بالفعل وطلب فاعل عليها، لتحقيق أهداف التنمية، التي حددتها الرؤية، وهناك مصانع تم إنشاؤها بالفعل، ومع وجود الخطة الاستراتيجية للملكية الفكرية فقد أصبحت الأدوار واضحة لكل القطاعات الحكومية المشاركة في حماية الحقوق، ما جعل الطرق ممهدة أمام تحويل الابتكارات إلى منتجات لها سوق، وبقيت القضية الأساسية في بناء قاعدة علمية من أجل نقل المعرفة وتحويل الأبحاث إلى منتجات اقتصادية، لذلك جاءت استراتيجية "كاوست" في الوقت والمكان المناسبين تماما، ذلك أن "كاوست" -كما وصفها ولي العهد- تتميز في أبحاثها وابتكاراتها ومواهبها، وأصبحت إحدى الجامعات البحثية الرائدة في العالم.
وتستند جامعة كاوست إلى مكانة أكاديمية عالمية رفيعة، فهي تحتل المرتبة الأولى عالميا من حيث "الاقتباسات لكل عضو هيئة التدريس"، وفقا لتصنيف QS لـ2021، فيما يضمن الإنتاج البحثي للجامعة في أهم 25 في المائة من المجالات العلمية الأعلى تصنيفا على مستوى العالم، وبحصة أكبر من مثيلاتها من الجامعات العريقة، ويوجد خريجو "كاوست" اليوم في مجموعة من كبرى الشركات العالمية والمؤسسات العلمية ومراكز الأبحاث، كرؤساء تنفيذيين وباحثين، مثل وكالة ناسا، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، و"نيوم"، وجهات أخرى، وحاليا تعمل الجامعة على مبادرات مهمة مثل "مبادرة كاوست لإحياء الشعاب المرجانية بالشراكة" مع "نيوم"، للعمل على زراعة وإعادة إحياء مئات الآلاف من الشعاب المرجانية على مساحة 100 هكتار، في جزيرة شوشة في البحر الأحمر.
وإذا كانت الخطة الاستراتيجية للملكية الفكرية تركز في جانب الأدوار والمسؤوليات والحوكمة، فإن استراتيجية "كاوست" تركز على زيادة فرص تحويل الأبحاث إلى ابتكارات ذات مردود اقتصادي، ويشمل ذلك ثلاث مبادرات رئيسة، وهي: إطلاق معهد التحول الوطني للبحوث التطبيقية، وإعادة تنظيم معاهد الأبحاث في الجامعة بما يتماشى مع الأولويات الوطنية للبحث والتطوير والابتكار، وتأسيس صندوق الابتكار التقني العميق بميزانية تقدر بـ750 مليون ريال، ويهدف الصندوق إلى الاستثمار المبكر في الشركات المحلية والعالمية المتخصصة في التقنية الفائقة، بما يعزز التنوع الاقتصادي ويسهم في توليد الوظائف التقنية النوعية، كما أن تحويل الأبحاث إلى ابتكارات يسهم في تحفيز نمو الشركات الناشئة القائمة على التقنية المتقدمة، بما يعزز تنافسية اقتصاد المملكة وريادتها عالميا في هذا المجال.