الاقتصاد الإسباني .. الجميع لا يشعر بالازدهار رغم الأرقام الحكومية شديدة اللمعان

الاقتصاد الإسباني .. الجميع لا يشعر بالازدهار رغم الأرقام الحكومية شديدة اللمعان
الاقتصاد الإسباني .. الجميع لا يشعر بالازدهار رغم الأرقام الحكومية شديدة اللمعان

يبدو من العسير لكثير من المراقبين الخارجيين تفهم الأسباب التي جعلت الإسبان غير راضين عن أداء رئيس وزرائهم الاشتراكي بيدرو سانشيز، فالأخبار الاقتصادية الواردة من مدريد تشير إلى أن الأداء الاقتصادي جيد، خاصة عند مقارنته بأداء عديد من أقران إسبانيا الأوروبيين.
عدم رضا أو غضب الإسبان من رئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز تجلى في نتائج الانتخابات البلدية الإسبانية التي جرت في 28 أيار (مايو) الماضي، وأسفرت عن صعود قوى لليمين، وحصول الحزب "الشعبي" المحافظ على 31.5 في المائة من أصوات الناخبين بزيادة 8.8 في المائة مقارنة بالانتخابات المحلية التي جرت 2019، والفوز بست مناطق كانت خاضعة لسيطرة الحزب الاشتراكي العمالي بقيادة رئيس الوزراء سانشيز، لكن المفاجأة كانت في صعود حزب فوكس اليميني المتطرف الذي حصد 7.2 في المائة من الأصوات بزيادة 3.3 في المائة مقارنة بالانتخابات الماضية.
كانت النتيجة رسالة واضحة لرئيس وزراء إسبانيا بأن الوقت قد حان للدعوة لعقد انتخابات عامة قبل موعدها المقرر نهاية العام، وبالفعل من المقرر أن يتجه الإسبان لصناديق الاقتراع في 23 تموز (يوليو) المقبل لتحديد من سيحكم البلاد في الأعوام المقبلة.
بعيدا عن السياسة وجدليتها فإن السؤال لا يزال قائما، لماذا أعرب الإسبان عن عدم رضاهم عن حكومتهم الاشتراكية. بلغة الأرقام يبدو وضع إسبانيا الاقتصادي جيد، فالناتج المحلي الإجمالي ينمو بمعدل أعلى من متوسط النمو في منطقة اليورو، والتضخم في إسبانيا أحد ادنى المعدلات في الاتحاد الأوروبي، إذ بلغ في مايو الماضي 3.2 في المائة، وذلك أقل معدل له في عامين، وقلص تراجع التضخم من التأثير السلبي للحرب الروسية - الأوكرانية في الشركات والمستهلكين، بينما التوظيف وصل إلى معدلات قياسية وتراجعت البطالة في مايو الماضي إلى أدنى معدل لها منذ 2008، حتى البطالة بين الشباب التي تعد صداعا دائما للحكومات الإسبانية المتعاقبة آخذة في التراجع.
وتبدو الأخبار الجيدة للاقتصاد الإسباني أكثر بريقا في قطاع السياحة، فمع ارتفاع معدلات التضخم في جميع الدول الأوروبية يبدو أن المستهلكين قرروا عدم امتلاك سيارات أو اقتناء عقارات أو شراء أجهزة إلكترونية وهواتف جديدة وفضلوا بدلا من ذلك زيارة إسبانيا، والنتيجة ازدهار كبير في القطاع السياحي الإسباني، الذي بات اليوم أكبر بنسبة 30 في المائة ما كان عليه قبل وباء كورونا.
يستغرب الاشتراكيون الإسبان من خسارتهم في الانتخابات المحلية، ويتساءلون ألم نخفض التضخم، ورفعنا الحد الأدنى للأجور، وأصلحنا سوق العمل، وقضينا على عقود العمل المؤقتة، ولجمنا النزعة الانفصالية في كاتالونيا، وأنفقنا مساعدات الاتحاد الأوروبي فيما هي مخصصة له، فكيف يتركنا الناخبين ويختارون القوى اليمينية؟
مع هذا يبدو الإسبان غير عابئين باستغراب الاشتراكيين من خسارتهم الانتخابات المحلية، فهم غير راضيين عن أداء سانشيز ورفاقه، بل ترجح أغلب استطلاعات الرأي أن الحكومة المقبلة التي ستؤلف بعد انتخابات 23 يوليو ستكون يمينية وبامتياز.
تقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة لورين جوي أستاذة الاقتصاد الأوروبي في جامعة بريستول "إذا نظرت عن كثب ربما تجد أسبابا وجيهة لعدم رضا الإسبان من الأداء الحكومي، فالأداء الاقتصادي ربما لا يكون جيدا كما تشير الأرقام الحكومية شديدة اللمعان، فقد انخفض الاستهلاك الخاص في الربع الأول والثاني من هذا العام، وانخفضت القوة الشرائية للأسر أيضا، وفي الربع الأول بلغ معدل البطالة 13.2 في المائة مقارنة بـ12.9 في المائة في الربع الأخير من العام الماضي".
وتضيف "النمو المحقق في إسبانيا يتركز في قطاع واحد ألا وهو قطاع السياحية، لكن الجميع لا يشعر بالازدهار، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة انعكس سلبا بطبيعة الحال على إيجاد الائتمان في البلاد".
لا شك أن حكومة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز قدمت عديدا من حزم الدعم لمعالجة أزمة الطاقة ودعم الاقتصاد، ومع انحسار أزمة الطاقة تدريجيا يتحول الانتباه في إسبانيا إلى المالية العامة في البلاد، التي تعد في وضع غير وردي بالتأكيد.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور إيدي جبريال أستاذ المالية العامة السابق في جامعة كامبريدج "عدم اليقين بشأن السياسات الحكومية المستقبلية قد يقوض ثقة المستثمرين، ما يؤدي إلى انخفاض كل من الاستثمارات المحلية والأجنبية، وهذا بدوره يمكن أن يكون له تأثير سلبي في إيجاد فرص العمل والنمو الاقتصادي، فالدين العام الإسباني بلغ 113 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، وعجز الميزانية العامة يقارب 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى الرغم من أن المفوضية الأوروبية تتوقع انخفاضا تدريجيا في العجز هذا العام إلا أنه سيظل أعلى من 4 في المائة، وهذا يعني أن إسبانيا ستكون أعلى بكثير من نسبة 3 في المائة التي تعدها المفوضية الأوروبية عجزا مفرطا، لذلك أيا كان من سيشكل الحكومة المقبلة فإن الضغط الأوروبي من أجل الضبط المالي سيزداد على مدريد".
القلق الأعظم في إسبانيا والاتحاد الأوروبي أن تعرقل الصعوبات التي ستواجه تشكيل الحكومة المقبلة الإصلاحات المالية، وهذا يعني تراجع جهود الحكومة لتحقيق التوازن المالي، وعلى الرغم من أن النمو الاقتصادي في إسبانيا لا يزال أفضل نسبيا مما هو عليه في بقية منطقة اليورو ويدعم سوق السندات الحكومية، إلا أن أي عدم اليقين السياسي سيزيد من المخاطر التي تواجه السندات ويدفع بالمستثمرين إلى المطالبة بعائدات أعلى.
مع هذا فإن ضبط المالية العامة لا يمثل التحدي الوحيد الذي سيواجه أي حكومة مقبلة في إسبانيا.
وفي هذا السياق يعلق لـ"الاقتصادية"، الخبير الاستثماري صامويل آدم قائلا "هناك حاجة إلى إصلاحات كبيرة في عديد من القطاعات لزيادة الإنتاجية، فإسبانيا تتخلف عن منافسيها الأوروبيين من حيث نمو الإنتاجية، وهناك حاجة لمزيد من الإصلاحات في قطاع الطاقة وسوق العمل، وعلى الرغم من أن معدلات البطالة منخفضة مقارنة بفترات سابقة إلا أن إسبانيا لا تزال يوجد بها واحد من أعلى معدلات البطالة في أوروبا، وعليها أن تواجه كل تلك التحديات في ظل نمو اقتصادي معتدل تحيط به الشكوك بسبب شيخوخة السكان".
أيا كانت الحكومة المقبلة في إسبانيا فإن ما تواجهه تباطؤ اقتصادي، رغم عدم توقع حدوث ركود أو انكماش، مع هذا تظل أرقام الاقتصاد الإسباني أكثر تفاؤلا من الاقتصادات الأوروبية الأخرى بسبب عدم اعتمادها على الاقتصاد الروسي أو الأوكراني، ومن ثم كانت أقل تضررا من الآخرين من تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية.
كما أن صناعة البناء تتوقع عاما جيدا بفضل الأموال التي حصلت عليها مدريد من الاتحاد الأوروبي، وقطاع الخدمات لا يزال متفائلا نسبيا. من هذا المشهد العام فإن نتائج الانتخابات المقبلة وطبيعية التوازنات السياسة التي ستسفر عنها ستترك بصمة واضحة على الاقتصاد الإسباني، لكن عمق تلك البصمة ومداها سيختلف من حكومة لأخرى اعتمادا على تشكيلتها وتوجهاتها السياسية.

الأكثر قراءة