نقلة تشريعية بمنظومة مؤسساتية

في السعودية، تتسارع الخطى الواثقة لتمضي نحو تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في ظل "رؤية 2030"، من أجل تجويد الحياة وتعزيز الاستثمار بنوعيه المحلي والأجنبي، وتحفيز القطاعات الواعدة كافة.
وفي طريق الحراك التنموي والإصلاحات في جميع المجالات، يبرز إقرار نظام المعاملات المدنية لتطوير البيئة التشريعية ورفع كفاءة الأنظمة وتعزيز الشفافية، بل هو نقلة تشريعية لإرساء العدالة وإنجاز المعاملات، كما يأتي ترجمة عملية للجهود التي يقودها ويشرف عليها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ حقوق الإنسان، وتعزز تنافسية المملكة عالميا من خلال مرجعيات مؤسسية إجرائية وموضوعية واضحة ومحددة.
ولعل أهم تلك المشاريع التشريعية ما أعلن عنه في 2021، من بدء العمل على أربعة مشاريع لأنظمة: الأحوال الشخصية، المعاملات المدنية، الجزائي للعقوبات التعزيرية، ونظام الإثبات. وخلال 2022 تم إصدار نظامي الأحوال الشخصية، والإثبات، وأخيرا صدر نظام المعاملات المدنية.
ولا يوجد وصف لأهمية هذه الأنظمة الأربعة بالذات إلا من خلال قراءة تصريحات ولي العهد في مناسبات مختلفة بأن هذه الأنظمة "ستمثل موجة جديدة من الإصلاحات التي ستسهم في إمكانية التنبؤ بالأحكام ورفع مستوى النزاهة وكفاءة أداء الأجهزة العدلية وزيادة موثوقية الإجراءات وآليات الرقابة، لكونها ركيزة أساسية لتحقيق مبادئ العدالة التي تفرض وضوح حدود المسؤولية، واستقرار المرجعية النظامية بما يحد من الفردية في إصدار الأحكام".
فهذه الأنظمة هدفها منح المواطنين والمقيمين وكل من يعيش على أرض السعودية، القدرة الكاملة على التنبؤ بالأحكام، فنظام الإثبات تضمن 129 مادة، بينما تضمن نظام الأحوال الشخصية 252 مادة، وتضمن نظام المعاملات المدنية ما يزيد على 700 مادة، فهي أنظمة تتسم بالشمولية والدقة في الأحكام مع تغطية جميع الجوانب ذات الصلة بكل موضوع من موضوعاتها، وهذا يمنح مرجعية نظامية تمكن من تعزيز الشفافية عند التقاضي، وكذلك تعزيز النزاهة والمسؤولية الاجتماعية من حيث وجوب الالتزام بهذه الأنظمة عند إبرام العقود بما يمكن من تحفيف أعباء التقاضي واللجوء إلى المحاكم.
لا شك أن القيادة السعودية تعمل على تطوير المنظومة التشريعية بما ينعكس على مسيرة التنمية الوطنية في جميع المجالات بالتقدم والازدهار، كما يسير بالمجتمع نحو مستويات حضارية متقدمة في جوانب كثيرة، تهدف جميعها إلى جعل الحياة في المملكة ميزة نسبية. ويتضمن المشروع الضخم جوانب الحياة المختلفة بدءا من الصحة والتعليم حتى الترفيه، بكل ما تحمله هذه الموضوعات من قضايا الاستثمار والبنى التحتية والتنمية البشرية وتقنيات القرن الـ21، ولا شك أن الحياة في مجتمع متنوع، ونقطة التقاء الحضارات والثقافات الإنسانية تتطلب تحديد المسؤوليات والحقوق بكل شفافية ووضوح.
وصدور هذه التشريعات لم يأت من أجل التغيير فقط، بل لأن عدم وجود هذه التشريعات يؤدي إلى تباين في الأحكام وعدم وضوح في القواعد الحاكمة للوقائع والممارسات، وعدم وجودها يتسبب في طول أمد التقاضي ما يرفع تكلفة الحياة ومصروفات قطاع الأعمال وعدم القدرة على بناء التزاماتهم، وهو ما يعوق النمو الاقتصادي في نهاية المسار.
ويعد نظام المعاملات المدنية الذي توج بموافقة مجلس الوزراء بعد أن تمت الموافقة عليه من مجلس الشورى نقلة كبرى، وجاء وفقا لأحدث الاتجاهات القانونية وأفضل الممارسات القضائية الدولية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وأتى منسجما مع التزامات السعودية الدولية في ضوء الاتفاقيات التي صدقت عليها، بما يحقق مواكبة مستجدات الحياة المعاصرة، فهذا النظام كما الأنظمة السابقة له، يرتكز على الشريعة الإسلامية ولكن تم تطويره وفقا لأحدث الاتجاهات القانونية وأفضل الممارسات، فلا تعارض بين تطبيق الشريعة الإسلامية وبين أن تكون النصوص القانونية المكتوبة وفقا لمستجدات الحياة المعاصرة، لتغطية جوانب مثل حماية الملكية بجميع أنواعها ومستجداتها وتنوع وسائل حمايتها الحديثة. ولأن وسائل حضور مجلس العقد اليوم قد تختلف في هذه الحياة المعاصرة، ومن ذلك الحضور عبر وسائل الاتصال المختلفة، فإن وجود مواد دقيقة في تعريف مجلس العقد يمنح العقود الحديثة استقرارها المطلوب وحجيتها، ويوضح المراكز القانونية.
فالنظام يحدد بدقة جميع ما يتعلق بالعقود مثل: أركان العقد، وحجيته، وآثاره بين المتعاقدين، والأحكام المتعلقة ببطلانه وفسخه، وأحكام الفعل الضار وقواعد التعويض عنه، وتطرقت نصوصه النظامية إلى جميع صور الملكية وأحكامها والالتزام بها والآثار القانونية المختلفة للعقود، وهذا ما ينعكس إيجابا على بيئة الأعمال ويزيد من جاذبيتها، خاصة مع موجود أنظمة أخرى مثل نظام الإفلاس الذي صدر 1439هـ، فهذه الأنظمة تتكامل معا من أجل تنظيم الحركة الاقتصادية واستقرار الحقوق المالية، وفي تسهيل اتخاذ القرارات الاستثمارية، إضافة إلى تعزيز الشفافية وزيادة القدرة على التنبؤ بالأحكام في مجال المعاملات المدنية والحد من التباين في الاجتهاد القضائي وصولا إلى العدالة الناجزة، والإسهام في الحد من المنازعات.
كما يستهدف نظام المعاملات المدنية حماية الملكية ويحدد القيود الواردة عليها، والحقوق المتفرعة عنها، كحقوق الانتفاع والاستعمال والارتفاق بما يحفظ حقوق الشركاء والمتجاورين والورثة وغيرهم.
الخلاصة أن نظام المعاملات المدنية والأنظمة الأخرى ستكون المرجع لجميع المعاملات المدنية والتجارية التي لا تغطيها الأنظمة الحالية باستقرار الأحكام القضائية عبر مواد واضحة ونصوص نظامية منضبطة ومنظومة مؤسساتية تتكامل بلا اجتهادات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي