إعلان الرياض باستراتيجية متناغمة

تضرب العلاقات بين الصين والدول العربية بجذورها في أعماق التاريخ، التي ترجع إلى طريق الحرير القديم قبل أكثر من ألفي عام. وفي ظل التغيرات غير المسبوقة التي لم يشهدها العالم منذ 100 عام، تواجه الصين والدول العربية فرصا وتحديات تاريخية متشابهة، فهي تحتاج بشكل أكثر إلى تكريس الصداقة التاريخية وتعميق التعاون الاستراتيجي فيما بينها، والعمل يدا بيد على بناء المجتمع الصيني - العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد، وإيجاد مستقبل أجمل للعلاقات الصينية - العربية. وفي مسيرة التاريخ الطويلة، ظلت الصين والدول العربية في مقدمة الركب للتواصل الودي بين شعوب العالم في الأزمنة القديمة. وظل السلام والتعاون والانفتاح والشمول والتعلم المتبادل والاستفادة المتبادلة والمنفعة المتبادلة والكسب المشترك عنوانا رئيسا للتواصل الصيني العربي.
تتمتع الصين بتاريخ طويل من التبادلات الودية مع الدول العربية، ومن بينها التعاون الاقتصادي والتجاري فهو الأقدم والأكثر نشاطا، ومن خلالها زادت رفاهية الشعبين. وفي هذا الاتجاه وقعت الصين وثائق تعاون بشأن البناء المشترك لـ"الحزام والطريق" مع 18 دولة عربية، ويجري في إطار ذلك تعاون مختلف وفقا لخصائص تلك الدول. وبقيت الصين أكبر شريك تجاري للدول العربية. استوردت الصين 250 مليون طن من النفط الخام من الدول العربية، ما يشكل نصف وارداتها الإجمالية للنفط الخام، وبقيت الدول العربية أكبر مورد للنفط الخام إلى الصين. واستأنفت المشاريع الرئيسة للحزام والطريق في الدول العربية، العمل بطريقة منظمة، واستمر الاعتراف الإقليمي بالمنتجات والتقنيات والمعايير الصينية في الازدياد، كما حلت الصين محل الاتحاد الأوروبي في 2020 وأصبحت الشريك التجاري الأول لمجلس التعاون الخليجي.
وخلال الأعوام الأخيرة، وبفضل منتدى التعاون الصيني العربي ومبادرة الحزام والطريق وغيرها من الآليات، دخلت العلاقات الصينية العربية مسار التنمية السريعة، وتواصل التعاون الاقتصادي والتجاري بين الجانبين في التطور بشكل أعمق وأوسع، وأصبح الجانبان شريكين مهمين في التجارة والطاقة، حيث ينمو الاستثمار الثنائي بسرعة، ويتعمق التعاون في القدرة الإنتاجية ويتحسن مستوى الترابط باستمرار. ويعزز النمو المتسارع والمرتفع لتجارة الصين مع الدول العربية، هذا المسار الذي فاق بنموه مستوى حجم زيادة تجارة الصين مع العالم. وهذا يعني أن المستقبل يحمل للطرفين مزيدا من الازدهار في هذا الميدان الذي يمثل في النهاية المحور الأهم، ليس فقط في العلاقات الاقتصادية بل العلاقات السياسية أيضا. والحق أن نمو تجارة الصين مع العرب، لم يتراجع طوال العقود الأخيرة، في وقت تم فيه تطوير المنظومة التجارية بينهما، ما أسهم في وصول حجم هذه التجارة إلى ما هو عليه اليوم. وتعتقد الصين بمحورية مواصلة تطوير العلاقات التجارية مع الدول العربية، في إطار سياساتها الاقتصادية على الساحة الدولية عموما، في حين ينظر الجانب العربي إلى هذه المسألة كجزء أساس في علاقاته العالمية ككل.
وعكس مؤتمر الأعمال العربي الصيني العاشر الذي استضافته الرياض أخيرا، حقيقة هذا الحراك الاقتصادي المهم بين العرب والصين، ليس فقط من ناحية الموضوعات والقضايا المهمة التي طرحت فيه، بل بمشاركة أكثر من 4500 مشارك ومشاركة من صناع القرار والمستثمرين والخبراء والمختصين والمبدعين وقادة الأعمال في القطاعين العام والخاص. وبالفعل رسم هذا المؤتمر المحوري خريطة المستقبل الاقتصادي بين الكتلة العربية وثاني أكبر اقتصاد في العالم. وخرج باستراتيجية عبر "إعلان الرياض". وهذا الأخير شمل كل شيء على صعيد العلاقات الاقتصادية عموما، بما في ذلك ما يتعلق بالشركات الصغيرة والمتوسطة، وتعزيز رأس المال البشري وتعظيم مصادر الطاقة المتجددة، وغير ذلك من أدوات تدعم مسيرة العلاقات المشتركة.
وفي ظل هذا الحراك المتطور والواعد أيضا، ارتفعت تجارة الصين مع الدول العربية إلى مستوى قياسي في العام الماضي لتصل إلى 431.4 مليار دولار، مقابل 330.3 مليار دولار في 2021. ما الذي حدث مع تجارة بكين مع العالم؟ ارتفعت 4.5 في المائة فقط في 2022. وهذا يعزز التوجه الصيني والعربي لمزيد من التجارة ويعزز بالطبع الصداقة الداعمة لأي نوع من العلاقات بين الطرفين. بالطبع استحوذت المملكة العربية السعودية على الحجم الأكبر من تجارة الصين مع العرب، نظرا إلى ما تتمتع به من اقتصاد هو الأكبر في المنطقة العربية ككل، فضلا عن تنوعه وتوسع نطاقه ضمن رؤية المملكة 2030، التي وضعت التجارة محورا أساسا في عملية البناء الاقتصادي، وفي علاقاته الدولية عموما. ففي عشرة أعوام نمت التجارة بين الرياض وبكين بمعدل 49 في المائة، بحيث بلغ حجم التجارة السلعية بينهما 2.5 تريليون ريال.
ولأن الأمر كذلك، سجل العرب فائضا في الميزان التجاري مع الصين بنحو 85 مليار دولار، بدعم رئيس من السعودية. في حين أن المملكة والإمارات استحوذتا على نصف حجم التجارة مع بكين تقريبا من إجمالي التجارة الكلية. لا شك أن الميدان التجاري بين العرب والصين سيتوسع أكثر في المرحلة المقبلة، خصوصا في ظل سلسلة لا تنتهي من الاتفاقيات والمشاريع المشتركة التي شملت كل شيء تقريبا، كما أن التوجهات الاقتصادية بين الطرفين تتطلب بالفعل علاقات دائمة التطور، وتأخذ في الحسبان مكان الطرفين على الساحة العالمية ككل. المرحلة المقبلة ستشهد مزيدا من النمو في التجارة التي تعد حجر الزاوية لأي علاقات ثنائية حول العالم. كما أنها ستكرس حقيقة جودة الشراكة بين الطرفين. وستبقى المملكة اللاعب الأكبر في هذا الميدان، مستندة إلى مرونة حراكها الاقتصادي واتساع نطاقه، وتطوير أدواته، بما يتماشى مع مخرجات رؤية المملكة 2030، التي لم ترسم استراتيجية اقتصادية محلية فقط، بل وضعت استراتيجية تتناغم مع مصالحها الدولية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي