تراجع الإنتاج وبقاء التضخم
مع ارتفاع التضخم في العالم أجمع اتجهت البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بشكل متزامن، والمعلوم أن رفعها ينعكس على آليات التمويل وتيسير النقد بشكل سهل سواء للمصانع أو للمستهلكين، بمعنى آخر، فإن رفع أسعار الفائدة يشبه إلى حد بعيد حق الإنسان في المضاد الحيوي واسع التأثير، الذي سيقوم بمكافحة جميع أنواع البكتيريا في الجسم دونما تمييز بين ما هو مفيد وما هو ضار، وهذا بالطبع يقود إلى إنهاك الجسم الذي عليه تعويض البكتيريا النافعة، وهي الآلية ذاتها تقريبا عندما يتم رفع أسعار الفائدة.
فبينما تسعى مكافحة التضخم إلى كبح الطلب الثائر، فإن الإنتاج يتأثر أيضا، وذلك من جانبين، الأول هو عدم القدرة على الوصول إلى التمويل بسهولة، والآخر هو تقييد الطلب، وإذا استمرت العلاقات في هذا الاتجاه فإن العالم يتجه نحو ركود عالمي وسلسلة من الأزمات المالية في الأسواق الناشئة، والاقتصادات النامية من شأنهما أن يلحقا بهما ضررا دائما، وفق دراسة منشورة في موقع البنك الدولي. ولمعالجة المشكلة وفق تلك الدراسة ولتحقيق معدلات تضخم منخفضة واستقرار العملة ونمو أسرع، يمكن لصناع السياسة تحويل تركيزهم من خفض الاستهلاك إلى تعزيز الإنتاج، مع السعي إلى استخدام سياسات تولد استثمارات إضافية وتحسين الإنتاجية وتخصيص رأس المال، وهما أمران حاسمان للنمو والحد من الفقر. لكن تقريرا نشرته "الاقتصادية" أخيرا يقدم أدلة مختلفة، فقد أدى تباطؤ الطلب العالمي إلى تراجع نشاط التصنيع في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، وما زال يمثل تحديا كبيرا لكثيرين من كبار المصدرين في آسيا، فالأمور تسير عكس ما يجب أن يتم.
وتؤكد الدراسة أنه يجب على صانعي السياسة الاقتصادية اتخاذ خطوات قوية لتعزيز العرض العالمي، تشمل تخفيف قيود سوق العمل بزيادة مشاركة القوى العاملة لتقليل ضغوط الأسعار، ويشمل ذلك تسهيل إعادة توزيع العمال المشردين، كما لا بد من تعزيز شبكات التجارة العالمية بتخفيف اختناقات العرض، ولا بد أيضا من زيادة المعروض من السلع، وهذه التوصية الأخيرة تواجه تحديات. رغم قدرة الولايات المتحدة على تعزيز التوظيف إلى أعلى مستوى في تسعة أشهر، إلا أن التصنيع تقلص للشهر السابع مع استمرار الطلبات الجديدة في الانخفاض وتحركت مؤشرات مديري المشتريات لمنطقة اليورو إلى ما دون نقطة التعادل على الرغم من خفض المصانع الأسعار لأول مرة منذ أيلول (سبتمبر) 2020.
ففي بريطانيا، انخفض الإنتاج للشهر الثالث وتراجعت الطلبات الجديدة بأسرع وتيرة في أربعة أشهر. وقال كبير الاقتصاديين في بنك هامبورج التجاري، تأكيدا لذلك: "إن ضعف الطلب في قطاع التصنيع الذي انعكس بجلاء في تراجع قراءات مؤشر مديري المشتريات منذ بداية العام. وهذه القراءة تؤكد أن قدرة المصانع على زيادة المعروض العالمي من السلع تتراجع، ما يقود إلى أزمة تالية حذر منها البنك الدولي".
هنا أدلة أخرى فقد انخفض مؤشر بنك هامبورج التجاري النهائي لمديري مشتريات قطاع الصناعات التحويلية في منطقة اليورو إلى 44.8 بعد أن كان المؤشر عند قراءة 45.8 في نيسان (أبريل) وبهذا يكون أقل من قراءة 50، وهي الحد الفاصل بين النمو والانكماش، أي أن هناك تراجعا في النمو قد يتم تصنيفه انكماشا لو استمر الحال هكذا حتى نهاية العام، خاصة أن هذا التراجع على نطاق واسع في أكبر أربعة اقتصادات في منطقة اليورو هي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
وفي مقابل هذا الاتجاه في الولايات المتحدة وأوروبا فقد أظهرت مؤشرات مديري المشتريات في الصين واليابان ميل نشاط المصانع نحو النمو الشهر الماضي، لكن ذلك ليس منتشرا في كل آسيا، بل إن كوريا الجنوبية وفيتنام وتايوان أظهرت اتجاهات معاكسة، وعدم الاتساق هذا يلقي بظلاله على توقعات النمو في آسيا، فقد جاء رأي المحللين بأن استطلاعات مؤشر مديري المشتريات تشير إلى تعافي الاقتصاد الصيني مع تجاوز المؤشر عتبة 50 مع بلوغه 50.9 في أيار (مايو) صعودا من 49، لكن عاد المحللون إلى التحفظ بقولهم: "إن ذلك كان بوتيرة أبطأ وإن تراجع الدعم المالي أثر في نشاط الإنشاءات"، ما يزيد غموض المرحلة أن مسحا لثقة الأعمال في الصين للأشهر الـ12 المقبلة، أظهر تراجعا إلى أدنى مستوى لها في سبعة أشهر وسط مخاوف من التوقعات الاقتصادية العالمية.
وفي اليابان ورغم ارتفاع مؤشر مدير المشتريات إلى 50.6 في أيار (مايو)، وهي القراءة الأولى فوق عتبة 50 منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إلا أن إنتاج المصانع اليابانية انخفض بشكل غير متوقع في نيسان (أبريل) وفي كوريا الجنوبية بلغ المؤشر 48.4 نقطة مسجلا أطول مسيرة من القراءات التي تشير إلى الانكماش في 14 عاما بعد أن أثر تباطؤ الطلب العالمي في الإنتاج والطلبات، وأظهرت مسوح أن فيتنام وماليزيا وتايوان شهدت أيضا تقلصا في نشاط المصانع في أيار (مايو)، بينما توسع نشاط الفلبين وزاد نشاط مصانع الهند.
وبهذا الوصف للمشهد العالمي، فإن تراجع الإنتاج يأخذ شكل موجة عالمية تستمر في التوسع، وهذا قد يقلص العرض بشكل قد يتزامن مع تراجع القوة الشرائية للمستهلكين، ما يعزز من بقاء التضخم عند مستويات أعلى من 5 في المائة ويقبع الاقتصاد العالمي في ركود طويل قبل أن يبدأ أثر ذلك في الظهور تدريجا في الوظائف، ولا بد للبنوك المركزية في العالم وصانعي السياسات الاستثمارية إعادة النظر بشكل عاجل في هذه الآثار، التي قد تنبئ بأزمة اقتصادية عالمية طويلة الأجل.