Author

القمة العربية في جدة واللغة الأم

|
أستاذ جامعي ـ السويد

كان حقا أمرا لافتا للانتباه أن تكون اللغة الأم ـ لسان الضاد ـ في مركز اهتمام الملوك والرؤساء والقادة العرب الذين اختتموا قمتهم الـ32 في المملكة الأسبوع الفائت.
ولا أنكر أن الفقرة التي وردت في إعلان جدة في ختام القمة كانت بالنسبة لي أهم حدث ثقافي ليس في تاريخ العرب المعاصر، بل في تاريخ الثقافة في الشرق برمته.
أي أمة تضيع لسانها تخسر هويتها. اللغة هي الوعاء الذي تنصهر فيه كل مكونات الأمة مهما تباينت الفروقات بينهم. واللغة هي ذاكرة الأمة التي تنطق بها، فيها ومن خلالها يتعرف الأفراد على أيامهم وتاريخهم وثقافتهم وشعرهم وفنونهم وآدابهم وتراثهم، وهذه في مجملها من أرقى ثمار الحضارة الإنسانية.
ينتابني حزن شديد عندما أرى أن هناك شعبا لا يكترث للغته الأم ويفضل لغة أخرى عليها، ويستبدل ذاكراته بما تحمله ذاكرة اللغة الأجنبية، وهذا يعني أن اللغة الأجنبية بدلا من اللغة الأم ستشكل في النهاية ثقافته وتراثه وتاريخه وفنونه، ويكون مثله مثل الشجرة التي تقتلع من جذورها.
لن أسرد الكم الهائل من النشر العلمي والأكاديمي الذي يؤكد دور اللغة الأم في تنشئة الأجيال وأنه من الأهمية في مكان أن تكون اللغة الأم هي الواسطة التي فيها تلقى المحاضرات ويقام التدريس في جميع المراحل الدراسية من الابتدائية حتى الجامعة.
يجب أن تتحول الفقرة الخاصة باللغة العربية في إعلان جدة إلى ممارسة وتدخل ضمن الشرائع واللوائح التي تعزز دور اللغة العربية أولا في الدول الناطقة بها وثانيا أين ما حل الدهر بالعرب.
ولا يتصور امرؤ أنه إن تلقى علومه بالإنجليزية مثلا سيكون أكثر علما أو إدراكا أو صاحب أفق أوسع من الذي يتلقى علومه بلغته الأم.
لقد أثبت البحث العلمي أن الذين يتلقون علومهم بلغتهم الأم ويحافظون عليها وينهلون من تراثها وفنها وأدبها ونثرها لهم ملكة وفطنة وأفق أوسع بكثير من أقرانهم الذين يتلقون علومهم بلغة غير اللغة الأم.
ولنا في اللاجئين السوريين الذين قدموا إلى أوروبا بعد الأحداث المدمرة في بلدهم أسوة حسنة. أعداد اللاجئين السوريين في أوروبا نحو مليون ونصف المليون. قد يقول قائل ما علاقة اللاجئين السوريين بالإعلان الصادر عن الزعماء العرب في ختام قمتهم الـ32 في جدة.
دعني أتحدث لكم وببعض التفصيل حول اللاجئين السوريين في السويد. السويد استقبلت أكبر عدد من اللاجئين السوريين مقارنة بعدد السكان إن أخذنا الدول الغربية معيارا.
ولكن كما نعلم، فإن سورية تأتي في مقدمة الدول العربية حفاظا على لسان الضاد وكذلك جعل اللغة الأم واسطة التعلم في كل المراحل الدراسية ومنها الدراسات العليا للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه.
أشرح أكثر وأقول إن السوري الذي وصل إلى السويد كان أقل إلماما باللغة الإنجليزية من أي من أقرانه العراقيين أو غيرهم من الذين تلقوا تعليمهم الجامعي باللغة الإنجليزية. كل المواد والمناهج الدراسية في سورية، حتى الطبية منها، هي باللغة العربية.
ما حدث على أرض الواقع، وهذا ما نقلته الصحافة السويدية بأمانة اتكاء على تقارير أصدرتها مؤسسات تعنى بتأهيل وتشغيل اللاجئين، أن الأطباء السوريين الذين قرأوا كل علومهم بالعربية تمكنوا من ممارسة مهنة الطب في أرقى المستشفيات السويدية وبفترة قياسية مذهلة، لم تتمكن منها أي مجموعة عرقية أخرى قدمت إلى السويد من دول كانت دراسة الطب بالإنجليزية.
ليس هذا فحسب، بل إن أصحاب الشهادات من السوريين تمكنوا من معادلة شهاداتهم الجامعية بسرعة غير مسبوقة وتبوأوا أحيانا مناصب ومراكز أرفع من تلك التي كانت لديهم في بلدهم الأصلي.
ويفسر العلماء ظاهرة مثل هذه استنادا إلى البحث العلمي الرصين الذي يؤكد أن تلقي العلم والمعرفة باللغة الأم يشحذ الذهن وينشئ جيلا مستقلا معتمدا على نفسه له من رابطة الجأش ما يمكنه من تجاوز الصعاب التي تواجه المرء في الحياة الدنيا.
من هنا أرى، وانطلاقا من التوصية الخاصة بالاهتمام باللغة العربية الصادرة عن مؤتمر القمة الأخير، أن يصار إلى اتخاذ خطوات عملية مدروسة لكي يكون التعليم باللغة الأم في جميع الدول الناطقة بالعربية، وفي كل مراحل التعليم وعلى جميع المستويات والمؤسسات، حتى إن كانت هناك مدارس أو جامعات أجنبية تقدم الخدمة في هذه الدول.
وسأعود إلى الموضوع المهم هذا في سلسلة مقالات لأن اللغة الأم هي التي تجمع الأمة، لغتنا الأم هي تشكلنا، هوية وثقافة وتاريخا وفنونا وطقوسا وأدبا وشعرا ونثرا وحضارة.
وإن تحدثنا عن العربية، فهذا لسان قد يسبق أي لسان آخر في الدنيا فيما يملكه من خاصية ومقدرة وسعة لارتباطه الوثيق بالرسالة والتاريخ والأيام والتكوين الاجتماعي والثقافي والفكري للناطقين بها.

إنشرها