Author

إنها بداية التاريخ وليست نهايته

|
أستاذ جامعي ـ السويد

أي ذكر أم تنويه أم كتابة يرد فيها مصطلح "نهاية التاريخ" فلا بد أن تكون الإشارة إلى العالم والمفكر والسياسي والاقتصادي الشهير فرانسيس فوكوياما. ربما لم يؤثر مفكر في مسار سياسة واستراتيجية الولايات المتحدة والغرب بصورة عامة مثل فوكوياما.
ويعزو كثيرون شهرته الطاغية وتأثيره البالغ في مجرى الفكر والممارسة في السياسة الأمريكية إلى كتابه ذائع الصيت الذي نشره في 1992 تحت عنوان The End of History and the Last Man، أي نهاية التاريخ والإنسان الأخير.
بيد أن شهرة هذا العالم كانت قد بلغت الآفاق قبل ذلك بثلاثة أعوام، وعلى الخصوص بعد نشره مقالة مطولة في مجلة "ذي ناشنال إنترست" الأمريكية الشهيرة وأتت تحت عنوان مقتضب The End of History أي نهاية التاريخ.
هذه المقالة ذاع صيتها وقد تكون واحدة من أكثر النصوص السياسية المكتوبة باللغة والخطاب الذي تتبناه المجلات الأمريكية الشهيرة ـ بمعنى آخر لم تكن مقالة فوكوياما من طراز الأبحاث العلمية التي يشتغل عليها الأكاديميون وعلى الخصوص في العلوم الإنسانية والاجتماعية من إسناد ومراجع واقتباسات وتحكيم علمي يقوم به الأقران تحت شروط قاسية.
مع ذلك إن قسنا المدى الذي وصلته مقالة فوكوياما المنشورة في 1989 لرأينا أن تأثيرها في المحافل والأروقة الأكاديمية ربما يفوق أي بحث أكاديمي رصين آخر في الحقل المعرفي ذاته، وهنا أستند إلى الأبحاث العلمية والأكاديمية التي تتكئ على مقالة فوكوياما وتقتبس منها وهي بعشرات الآلاف.
ولم تمض ثلاثة أعوام على نشر المقالة حتى طورها فوكوياما إلى كتاب، كما أشرنا في أعلاه، وصار الكتاب أشهر من نار على علم حيث تبنت منطلقاته الفكرية والنظرية الحكومات الأمريكية المتعاقبة وصار لفوكوياما من المكانة والجاه والموقع والتأثير ربما لم يحصل عليها أي مفكر آخر في التاريخ المعاصر للولايات المتحدة.
وإن كان الحظ يسعف باحثا أو مفكرا، فإن فوكوياما له القدح المعلى في ذلك، إذ أتت طروحاته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والثقافية والسياسية وتنبؤاته المستقبلية حول سيادة الديمقراطيات الليبرالية الغربية على العالم في أسواقها الحرة ورأسماليتها، في مرحلة مفصلية من تاريخ العالم المعاصر.
كان فوكوياما يكتب والعالم يشاهد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وسقوط الاشتراكية والشيوعية والفكر والنهج الماركسي الذي كان ينهل منهما.
ليس هذا وحسب، بل خلت الساحة أمام الولايات المتحدة، قائدة الفكر والنهج الرأسمالي الليبرالي لكي تصبح القوة الأعظم والوحيدة في العالم الذي، حسب المسار التنظيري الذي يسير عليه فوكوياما في مقالته وكتابه، ما عليه إلا التشبث بجلباب أمريكا والخضوع لها والعمل حسب مشيئتها.
وكان المحافظون الجدد في البداية من أشد المتحمسين لأفكار فوكوياما وهو كان في مرحلة من نضوجه كمفكر وفيلسوف وعالم اقتصاد يأخذه الزهو والفخر والكبرياء في ذلك، رغم، ولشهادة التاريخ، أنه ابتعد عنهم في الأعوام الأخيرة.
يسرد لنا فوكوياما في مقالته أسماء فلاسفة كبار من أمثال ماركس وهيجل وآخرين كثر دون مصادر أو إسناد لأقوالهم، رغم أني لا أظن أن هناك أكاديميا يحمل في داخله شكوكا حول رصانة وعلمية كتاباته. وهو بذلك يبرهن على أفق واسع وقراءات معمقة للفكر الإنساني ونشأته وتطوره، ليس من خلال التواصل مع من درس هذا الفكر، بل من خلال قراءته المركزة لكتابات ومؤلفات المفكرين أنفسهم.
لن يكون في مقدوري تقديم شرح مسهب لمقالة فوكوياما ذات الـ18 صفحة. قد أحتاج إلى سلسلة مقالات تمتد أشهرا. أما كتابه الذي يربو على 400 صفحة، فهذا لعمري بحث آخر.
ولكن إن أردت تلخيص مقالة فوكوياما التي كنت قد قرأتها وعدت إليها قبل كتابة مقالة الأسبوع لجريدة "الاقتصادية"، فإن الكاتب والمفكر الأمريكي هذا يستخدم مصطلح "نهاية التاريخ" مجازا، حيث يعني أن حقبة سيطرة الأيديولوجيات التي تفرز التحكم بمقاليد الناس والاستبداد قد ولى، وأن عهدا جديدا "تاريخا جديدا" من السلام والليبرالية والتآخي قد أطل برأسه.
وهذا التاريخ الجديد ستقوده الولايات المتحدة التي ستجلب الرخاء والسلام والطمأنينة إلى ربوع عالم خال من الحروب والصراعات.
وستسود الرأسمالية الليبرالية المعمورة، وحتى الصين المتشبثة بنظامها السياسي الماركسي والمتبنية نهجا اقتصاديا رأسماليا ليبراليا ستصبح واحة للديمقراطية ذات الأسس الليبرالية الغربية.
ما أود قوله باختصار شديد، لأنني استنفدت المساحة التي يمنحها لي المحرر لكتابة مقالتي الأسبوعية، إن كان التاريخ حسب فوكوياما قد انتهى عند اقتراب العالم من نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وأن عهدا جديدا سينجلي ويدوم بقيادة الولايات المتحدة والدول الرأسمالية الغربية التي تتبع النهج ذاته من الديمقراطية الليبرالية، فلقد خاب ظنه.
وها هي الحرب في أوكرانيا. إن نظرنا مليا لرأينا أنها أيضا نهاية التاريخ، ولكن هذه المرة قد تأتي إلى نهاية العهد الذي بشر به فوكوياما، لأننا صرنا نلحظ ولادة تاريخ جديد منافس للتاريخ الذي دشنته الرأسمالية والديمقراطيات الغربية بقيادة أمريكا.

إنشرها