Author

صناعة المكان لإسعاد الإنسان

|

مفهوم صناعة المكان قد لا يكون فكرة جديدة، لكن تداولها ليس كبيرا في الماضي، فقد ازداد تداول هذا المصطلح خلال العقدين أو الثلاثة الماضية بشكل أكبر، عندما برزت أفكار رائدة حول ضرورة تصميم المدن للناس، وليس للسيارات ومراكز التسوق، من خلال المشاركة المجتمعية، بما يعزز أهمية الجوانب الاجتماعية والثقافية للأحياء داخل المدن، لتصبح صناعة المكان وتشكيل ملامحه، من الناس وإلى الناس.
تجدر الإشارة إلى أن صناعة المكان نهج متعدد الأوجه لتخطيط وتصميم وإدارة الأماكن العامة، لتعزيز الارتباط بين أفراد المجتمع وبين الأماكن التي يعيشون فيها، ما ينعكس على تشكيل البيئة وإنشاء أماكن عامة تسهم في تحسين "الحيوية الحضرية"، وتعزيز صحة الناس وسعادتهم ورفاههم. بالتحديد، فإن هذا المفهوم يقوم على إشراك أصحاب المصالح في رسم الصورة النهائية لشكل المكان وملامحه ومكوناته، بدلا من التركيز على الخبراء والممارسين في مجال التخطيط الحضري.
هذا النهج يؤدي في النهاية إلى "أنسنة" المكان وتلبية احتياجات السكان، ومن ثم رفع جودة الحياة، وتعزيز الشعور بالمكان من خلال انخفاض التلوث، وسهولة الوصول، وقابلية حركة المشاة، وتوافر الفضاءات الخضراء، والترفيه، وتمكين الناس من ممارسة الرياضة والهوايات المختلفة، علاوة على التركيز على التصاميم التي تعزز العلاقات الاجتماعية وجاذبة للمواهب، وتحافظ على مكونات البيئة الطبيعية، بما يضمن الاستدامة البيئية، ويرفع كفاءة استخدام الطاقة، ويحقق الاستخدام الأمثل للفراغ العمراني الذي ينتج عنه تحسين جودة الحياة وتعظيم المردود الاقتصادي.
ومن المؤكد أن المشاركة المجتمعية تؤدي إلى تكوين الإحساس القوي بالمكان الذي يؤثر في الصحة الجسدية والاجتماعية والعاطفية والبيئية للأفراد والمجتمعات على حد سواء. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال سؤال الناس الذين يعيشون ويعملون ويتعلمون ويلعبون في مدينة ما حول الشكل الذي يرغبون أن تبدو عليه مدينتهم، أي أن مدخلات المجتمع ضرورية لصناعة المكان من خلال استشارة الناس حول كيفية جعل المدينة أكثر جمالا، وأمانا، وصداقة للإنسان، ولا يقتصر ذلك على إشراك الأفراد والمؤسسات، بل حتى الفنانين، في تشكيل السمات الاجتماعية والثقافية. يأتي هذا المفهوم انطلاقا من جهود تراكمية لمفكرين وفلاسفة، منهم الفيلسوف هنري لوفيير، الذي طرح فكرة "الحق في المدينة" التي تعني أن المدينة عمل فني جماعي يشترك الجميع في المساهمة فيه.
في الحقيقة، نجد بعض الأمثلة في حركة التطوير التي يشهدها بعض المدن السعودية، ففي الرياض مثلا، هناك جهود لتحسين البنية التحتية للمشي وركوب الدراجات عموما، خصوصا من خلال إنشاء المسار الرياضي المخصص للمشاة والدراجات وكذلك المسارات داخل الأحياء التي لقيت إقبالا كبيرا من قبل سكان الأحياء. من الجوانب المهمة لصناعة المكان، إحضار الطبيعة إلى المدينة، ولعل مشروع حديقة الملك سلمان الضخمة، وكذلك مشروع الرياض الخضراء، يسهمان في إحضار البيئة الطبيعية للمدينة من خلال زراعة آلاف الأشجار، وتشجيع الناس والشركات والمؤسسات العامة على زراعة الأشجار والعناية بها.
ختاما، فإن رؤية المملكة 2030 اهتمت بصناعة المكان من خلال مستهدفاتها، خاصة برنامج جودة الحياة، كذلك السعي إلى تصنيف ثلاث مدن سعودية ضمن قائمة أفضل 100 مدينة في العالم. ويبقى من الضروري تعزيز مفهوم "صناعة المكان"، وتحديد المؤشرات لقياس عناصره، ليس على مستوى الأمانات فقط، وإنما على مستوى البلديات المتوسطة والصغيرة لتعظيم الاستفادة من الموارد بما يلبي رغبات الناس، ويحقق الرفاهية والسعادة للإنسان.

إنشرها