ميزانية انتخابية بكرم متواضع

لا يمكن استبعاد الجانب الانتخابي لحزب المحافظين البريطاني الحاكم، ضمن الميزانية العامة للبلاد التي أعلنها جيرمي هانت وزير الخزانة. البريطانيون لن ينسوا كيف تسلم الأخير هذه الوزارة، في الأيام القليلة والأخيرة لحكومة ليز تراس، التي لم تحكم بريطانيا إلا 44 يوما، لم تتحمل البلاد بقاءها في ظل ميزانية مصغرة كانت أعلنتها بعد ساعات من تسلمها منصبها، تخفض الضرائب، دون الإشارة إلى أي مصدر بتمويل هذا التخفيض. ليس مهما الحديث عن "تاريخ" حكومة تراس الضئيل، التي ضمنت لنفسها المكان الأول في تاريخ المملكة المتحدة، على قائمة رؤساء الوزارات الذين حكموا أقل مدة. غير أن هذا لا يعني أن وضعية الاقتصاد المحلي تحسنت بمجرد حسم أمر حكومة تراس. فالسياسات الاقتصادية التي طرحتها في أول وآخر ميزانية لها، أضافت أعباء على كاهل البريطانيين لعدة أعوام، خصوصا من ناحية التمويل العقاري، وارتفاع تكاليف الاقتراض.
الميزانية الكاملة الجديدة لحكومة ريشي سوناك، ليست إلا موازنة تستهدف الناخب، لكن بلا "كرم" حقيقي، على اعتبار أن هذه الحكومة لا تتحمل مزيدا من الأعباء المالية، عبر رفع وتيرة الاقتراض. كما أن هذه النقطة بحد ذاتها تعد محورا منطقيا لحكومة تضع السياسات بمسؤولية مرحلية ومستقبلية. ولذلك، كان طبيعيا أن يعلن جيرمي هانت الذي يعد منقذا أتى في الوقت الصحيح، عدم زيادة الاقتراض الذي تجاوز في بريطانيا حجم الناتج المحلي الإجمالي، ودفع حتى صندوق النقد الدولي، لتوجيه تحذير نادر للمملكة المتحدة بشأن ماليتها العامة الصيف الماضي. فلا بد من تحسين وضعية هذه المالية قبل الانتخابات الحتمية المقبلة وهي ليست بعيدة، وهي انتخابات تجمع كل الجهات المختصة أن الحزب الحاكم سيخسرها بمعدلات كبيرة، وليست ضئيلة، نتيجة لعوامل كثيرة، بينها الاقتصاد والنزاهة والانقسام الحزبي ومستقبل علاقات بريطانيا مع كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
لكي تتسم الميزانية "أي موازنة" ببعد انتخابي، لا بد من رفع مستوى الإنفاق. فالناخب يهمه مستوى العيش، خصوصا في وقت يواجه فيه العالم موجة تضخمية تاريخية، قد تطول إلى منتصف العقد الحالي على أقل تقدير. فقد رفع هانت سقف فواتير الغاز والكهرباء التي شهدت صراعا سياسيا بشأنها طوال العام الماضي وبداية الحالي، إلى جانب رفع سقف معاشات التقاعد، وزيادة في مخصصات رعاية الأطفال. كان هذا متوقعا، فالضغوط المعيشية على الساحة المحلية باتت صعبة للغاية، تجلى ذلك، من خلال ارتفاع عدد ما يعرف بـ"بنوك الطعام"، واتساع رقعة الطبقة التي تعيش على حافة الفقر. ورغم أن التضخم المرتفع الذي قفز إلى الخانة العشرية في البلاد، كان سببا رئيسا لتوسيع هذه الحالة، إلا أن المسألة تعود إلى سياسات اقتصادية سبقت فترة انفجار جائحة كورونا، والحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا.
ليس واضحا ما إذا كانت تقديرات النمو التي أعلنتها الحكومة متماسكة. فهذه النقطة تدخل في نطاق فضفاض أو "هلامي". ما هو مؤكد أن الاقتصاد البريطاني سينكمش هذا العام بنسبة ضئيلة عند 0.2 في المائة، لكن لها تأثير سلبي من الناحية النفسية. ببساطة، لن يكون هناك نمو في العام الحالي، ولا سيما مع مواصلة بنك إنجلترا المركزي الرفع التدريجي للفائدة لاحتواء ما أمكن من آثار التضخم. كما أن هناك غموضا في التقديرات حول هذا الأخير، حيث تعتقد حكومة سوناك أنها قادرة على خفضه لمستويات تصل إلى 2.9 في المائة بنهاية العام الجاري، من 10.7 في المائة في الوقت الراهن. ولا شك في أن ذلك يعود إلى حالة من التفاؤل الكبير غير الحذر، في أوساط المشرعين البريطانيين.
لنترك المعارضة في المملكة المتحدة ومواقفها حيال الميزانية العامة جانبا. فهذه القوى السياسية لا ترى شيئا إيجابيا لحكومة بقيادة المحافظين وصلت إلى الحكم منذ 13 عاما تقريبا. كما أنها شهدت سلسلة من الاضطرابات السياسية على مستوى القيادة في فترة زمنية قصيرة. المهم الآن، أن يتمكن وزير الخزانة "المنقذ مجددا"، من الوصول إلى الخط الذي يمكن أن يجعل حزبه يخوض انتخابات عامة بأقل خسائر ممكنة. فخطوة كتجميد الضرائب على الوقود لمدة 12 شهرا، مهمة بالفعل للناخب، وكذلك الأمر في تمديد خفض الرسوم على الوقود أيضا بمقدار خمسة بنسات. كما أن الوزير نجح بالفعل بإعلانه رفع الضرائب على أرباح الشركات من 19 إلى 25 في المائة اعتبارا من الشهر المقبل، وهذه النقطة خصوصا كانت السبب الأول لانهيار حكومة ليز تراس الصيف الماضي، عندما خفضت الضرائب دون مصدر للتمويل سوى الاقتراض.
الميزانية البريطانية العامة للعام الحالي، والأولى في عهد ريشي سوناك، جاءت متلونة بالفعل، آخذة في الحسبان الجانب الشعبي والانتخابي، ووضعية الأعمال، فضلا عن الأعباء المالية الطارئة للحرب في أوكرانيا، التي اضطرت الحكومة لتخصيص 11 مليار جنيه استرليني إضافية إلى موازنة وزارة الدفاع، التي عانت في الأعوام الماضية نقصا واضحا معلنا في التمويل عموما. كل هذا يأتي في ظل مديونية هائلة تعتقد هذه الحكومة أنها قادرة على خفضها إلى نحو 92 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في العام المقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي