تقارير و تحليلات

بعد صفارات الإنذار التحذيرية .. هل تطلق الصين الإنفاق الاستهلاكي لتحقيق هدف النمو؟

بعد صفارات الإنذار التحذيرية .. هل تطلق الصين الإنفاق الاستهلاكي لتحقيق هدف النمو؟

بعد صفارات الإنذار التحذيرية .. هل تطلق الصين الإنفاق الاستهلاكي لتحقيق هدف النمو؟

عندما يحذر لي تشيانج رئيس وزراء الصين الجديد في أول مؤتمر صحافي له في أعقاب توليه مهام منصبه الجديد، من أنه لن يكون سهلا على بلاده -ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم- تحقيق هدف النمو البالغ نحو 5 في المائة، حيث إن ذلك سيتطلب كثيرا من الجهد.
وعندما تكشف السلطات الصينية أن نسبة النمو المحقق عام 2022 بلغت 3 في المائة فقط بفارق كبير عن الهدف الأساسي المحدد بـ5.5 في المائة، فلا شك أن صفارات الإنذار تنطلق، محذرة ليس في الصين فحسب بل في الاقتصاد العالمي كله بأن التنين الصيني يعاني مصاعب اقتصادية.
لكن ما طبيعة التحديات التي تواجه الاقتصاد الصيني، وإلى متى يمكن أن تدوم، وما التدابير والإجراءات التي ستتخذها لاستعادة قدرتها على تحقيق أهدافها الاقتصادية، وهل المصاعب الراهنة مؤشر على صحة ما يروج له بعض الخبراء الغربيين من أن النموذج الصيني في التنمية وصل إلى منتهاه، أم أن الأمر لا يتجاوز حالة من الاضطراب في الاقتصاد العالمي تدفع الصين نصيبا منها يتناسب مع وزنها الاقتصادي؟ عديدة هي الأسئلة التي أثارتها تصريحات رئيس الوزراء الصيني أخيرا، وعديدة أيضا الإجابات ووجهات النظر المتعلقة بكيفية أداء الاقتصاد الصيني في الأعوام المقبلة.
"الاقتصادية"، استطلعت آراء مجموعة من الخبراء الاقتصاديين في مسعى للتعرف على أبعاد المشهد الاقتصادي الصيني بتفاصيله المتنوعة، ولرصد الاتجاهات التي يمكن أن يسلكها، ولتسليط الضوء على طبيعة الحلول التي يمكن أن تلجأ إليها القيادة الصينية لإعادة تسريع وتيرة النمو الاقتصادي مجددا.
من جهته، يبدو البروفسير ك. ام . توبن أستاذ الاقتصاد السابق في جامعة شنغهاي والخبير في الاقتصاد الصيني متفائلا تجاه مسار الاقتصاد الصيني في الأجلين المتوسط والطويل، لكنه يحذر من التحديات الاقتصادية في الأجل القصير خاصة عندما يتعلق الأمر بأساليب العلاج المطروحة.
ويرصد لـ"الاقتصادية" العوامل التي أدت إلى تلك النبرة غير المعتادة في تصريحات رئيس الوزراء الصيني قائلا "إن الأوضاع الصحية في الصين نتيجة جائحة كورونا، خاصة مع إفراط الحكومة في تبني سياسات متشددة تعرف باسم صفر كوفيد لمواجهة المرض، وعمليات الإغلاق طويلة الأمد والمتكررة انعكست على الإنتاج الاقتصادي خاصة الصناعي وأضرت بالطبع بقطاع الخدمات، تضاف إلى تلك المشكلة الهزة التي أصابت قطاع العقارات الصيني الذي يمثل أكثر من ربع إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، هذا القطاع يعاني منذ 2020 نتيجة الإجراءات الحكومية المتشددة في مجال الإقراض للشركات العقارية بسبب الإفراط في البناء في عديد من المدن الصينية".
ويضيف "إلا أن تلك المشكلات تعد آنية إلى حد ما تتطلب تعديلات في الاتجاهات الاستثمارية، كما أن تخلي الصين عن سياسة صفر كوفيد في ديسمبر الماضي ستبدأ تأثيراته الإيجابية في البروز خاصة في مجال الإنفاق الاستهلاكي، ودفع قطاع الخدمات إلى الأمام، وتراجع الاختناقات اللوجستية وهذا سيسهم في نمو الاقتصاد الصيني".
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن القيادة الصينية عليها الآن ان تتجاوز القواعد التي تبنتها لأعوام وأسهمت في تحقيق "معجزاتها الاقتصادية"، حيث إن تعزيز الصادرات وتحفيز الاستثمار الحكومي بدون معالجة مشكلات نقص الاستهلاك وتباطؤ نمو الدخل قد يعوق التعافي الاقتصادي.
من هذا المنطلق يرى إدوارد ستانلي الخبير الاستثماري أن الصادرات الصينية حطمت رقما قياسيا العام الماضي بلغ 3.59 تريليون دولار ونمت بمعدل 7 في المائة، مع ذلك فشلت الصين في تحقيق معدل النمو المستهدف 5.5 في المائة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن الاقتصاد الصيني حافظ على معدل نمو سنوي للناتج المحلي الإجمالي بلغ 9 في المائة لما يقرب من عقدين من الزمان بين 2000 و2019، وكان استهلاك الأسر الصينية محركا مهما لدفع معدلات النمو، إذ حقق ما يقرب من 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فالطبقة المتوسطة كانت تنمو وتنمو معها الرغبة في مزيد من الاستهلاك، تحركها في ذلك ثقتها بأن المقبل من الأيام أفضل اقتصاديا".
ويضيف "وبعض الدراسات أشارت إلى أن نحو 3.5 في المائة من الأسر الصينية كان دخلها السنوي 3800 دولار عام 1997، وارتفع هذا الرقم أكثر من 12 في المائة خلال خمسة أعوام فقط، ليفتح شهية استهلاكية، بدأت تلك الشهية في التراجع عام 2017 ثم تراجعت بحدة نتيجة وباء كورونا، وهذا أدى إلى تفاقم مشكلات مثل البطالة التي تبلغ الآن نحو 5.6 في المائة في بلد عليه أن يوفر سنويا نحو 12 مليون فرصة عمل جديدة".
ويرجح إدوارد ستانلي الخبير الاستثماري أن ما يصفه رئيس الوزراء الصيني بـ"التطويق" و"القمع" الذي تمارسه الولايات المتحدة بحق بلاده، وتنامي الجهود الغربية لتقليص العلاقات التجارية والاستثمارية مع الصين، وتنامي المنافسة العدائية بين الطرفين خاصة في المجالات الاقتصادية الاستراتيجية مثل أشباه المواصلات، سيدفع الاقتصاد الصيني إلى تغيير البوصلة الاقتصادية نحو مزيد من التركيز على الاستهلاك الداخلي، مشيرا إلى أن السوق الاستهلاكية في الصين تبلغ قيمتها ستة تريليونات دولار، وستكون محورية لإعادة ثاني اقتصاد في العالم إلى مساره، خاصة أن الطلب العالمي على منتجات الصين لا يزال بطيئا.
تبدو وجهة النظر تلك أكثر قبولا بين عديد من الخبراء، لكن موجة الإنفاق الاستهلاكي في الصين لا تزال مكبوتة والسياسة الداخلية الخاصة بدعمها لم تتشكل بعد، ولا تبدو الحكومة مستعدة لضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية وبالطبع سوق العقارات، مع ذلك فإن الأمور تبدو مشجعة، إذ تعزز النشاط الاقتصادي في الشهرين الأولين من هذا العام مع انتعاش الاستثمار، وقد ارتفع الاستثمار في الأصول الثابتة بنسبة 5.5 في المائة خلال الشهرين الماضيين، كما ارتفعت مبيعات التجزئة بنسبة 3.5 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وذلك مؤشر على تعافي الإنفاق الاستهلاكي.
يرى بعض الخبراء أنه إذا كان الاقتصاد الصيني راكدا عند مستوى منخفض من النمو وكان أداؤه أقل من إمكاناته بشكل ملحوظ، خاصة أن الأسر ذات الدخل المتوسط والفقيرة قد استنزفت مدخراتها خلال فترات الإغلاق بسبب جائحة كورونا وسياسة صفر كوفيد، فإن الصين في حاجة إلى وضع استراتيجية اقتصادية جديدة.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" البرت بلاك الباحث في مجال الاقتصاد الدولي "ستحتاج الطبقة المتوسطة الصينية إلى الإنفاق على ما هو أكثر من تذاكر السينما والطعام حتى يتعافى الاقتصاد، سيحتاجون إلى القيام بمشتريات كبيرة وضخمة مثل السيارات والأجهزة الكهربائية والمنازل، وهذا جانب مهم، لكن ما يجب التطرق إليه هو أن جائحة كورونا لم تكن السبب الجذري للمشكلات الاقتصادية التي تواجهها الصين حاليا، إنما أسهمت في تعقيد المشكلة، الاقتصاد الصيني كان يواجه تحديات قبل تفشي وباء كورونا، لأنه كان يسعى للانتقال إلى اقتصاد عالي التقنية".
ويضيف "السياسة الاقتصادية الصينية عليها أن تتحرك على عدد من المحاور في آن واحد لرفع معدل النمو، فعليها أن تصلح قطاع العقارات والابتعاد به عن حافة الأزمة التي يصارعها حاليا، وعليها أن تعيد ثقة الطبقة المتوسطة في المستقبل لتحفزها على الإنفاق الكثيف، وعدم الاكتفاء بمنح الشركات الصغيرة إعفاءات ضريبية، إنما تقديم تحفيز مالي مباشر لها، مع مزيد من الاهتمام بالحكومات المحلية التي عادة ما تعد محركا للنمو الاقتصادي، والإسراع بعملية الانتقال إلى اقتصاد عالي التقنية".
تتفق الدكتورة أشلي لي أستاذة التجارة الدولية في مدرسة لندن للاقتصاد مع وجهة النظر أعلاه، وترى أن سياسة النمو عبر التصدير إلى الخارج تقترب من حدودها القصوى في الصين، ولن تضيف كثيرا إلى الاقتصاد الصيني مستقبلا.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن ازدهار الصادرات الصينية لن ينعكس كثيرا على الأسر العادية، والصين لا يمكنها حاليا تحفيز اقتصادها عبر آليات التصدير الاقتصادي فحسب، بالطبع تعزيز الصادرات مهم، لكن تأثيره بات هامشيا ومحدودا في النمو".
وتشير الدكتورة أشلي إلى أن الصين أصبحت أكبر مصدر في العالم عام 2009 وفي عام 2020 بلغت حصتها من صادرات السلع العالمية نحو 15 في المائة أي أكثر من حصة الولايات المتحدة الأمريكية واليابان معا، لكن يلاحظ أنها بلغت حدها الأقصى عام 2016 حيث مثلت في هذا العام 36 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، لكنها أخذت في التراجع منذ ذلك الحين، كما أن حزم التحفيز الحكومية قد أدت إلى زيادة المديونية الحكومية.
وتضيف "لذلك تبدو القيادة الصينية أكثر اقتناعا الآن أكثر من أي وقت مضى بإعطاء الأولوية للاستهلاك الخاص لتحقيق الانتعاش الاقتصادي، وهو ما يتطلب منها استعادة ثقة المستهلك الصيني خاصة من أبناء الطبقة المتوسطة، وعليها أن تخاطب مواطنيها من منطلق أن التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد جسام، في حين إن الصين لديها من القدرات الاقتصادية والتقنية ما يؤهلها للتغلب عليها".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات