Author

كيف يدار المرفق التعليمي؟

|
استوقفني مقطع فيديو لسيدة خليجية تخاطب وزير التعليم في بلدها مناشدة إياه، باسم أولياء الأمور، إعادة النظر في دمج مواد اللغة العربية والمواد الاجتماعية والعلوم الدينية، مبررة ذلك بما لمسه أولياء الأمور من ضعف في ممارسات وتطبيقات تعليمية في هذه المواد، كما ذكرت أن هذا الوضع يأتي نتيجة تقليص عدد حصص هذه المواد، وما ترتب عليه من اختزال محتوى هذه المواد بوضعها في كتاب واحد يتضمن محتويات مواد عدة، إذ أشارت ولية الأمر إلى أن تقليص هذه المواد ودمجها في كتاب واحد يحملان رسالة سلبية.
ما من شك أن حديث السيدة أمام الوزير يحمل في طياته رسالة أولياء الأمور الذين يحز في أنفسهم ويؤلمهم ضعف أبنائهم في هذه المواد، خاصة أن هذه المواد في أي مجتمع في العالم الفسيح تمثل مصادر أساسية في تشكيل الهوية الوطنية، لإيجاد مجتمع يعتز أبناؤه بهويتهم الجامعة لجميع أطياف المجتمع التي تظهر في إتقان اللغة الأم، والعقيدة الدينية، والقيم، والمثل الاجتماعية، كما يجب أن تدرس في المواد الاجتماعية، والاعتزاز بكل هذه المكونات. ومتى ضعفت الهوية -لا سمح الله- ضعف النسيج الاجتماعي وتهلهل. طبعا ليس لدي دليل مادي على ضعف الطلاب في المواد المذكورة، لكن الواقع الذي ذكرته السيدة من تقليص للحصص، ودمج للمواد، إضافة إلى إسناد تدريس مجموعة مواد إلى معلم واحد مثلا ، فيه إرهاق له، وتجاوز مبدأ التخصص، وعليه ستكون النتيجة الحتمية ضعف الطلاب، وعدم اهتمامهم بهذه المواد التي لم تأخذ نصيبها الكافي في الخطة الدراسية، ذلك أن العملية التعليمية الناجحة لا تعتمد على جهد المعلم مهما كان جهده وتميزه، إذ لا بد من بيئة تعليمية جيدة تتماشى مع المقررات المحددة، ومنهج مصمم بشكل منظم، وعرض، وأمثلة واقعية، وتقنيات تعليم، ودافعية طلاب عالية.
المقطع الثاني، كان مقابلة مع الدكتور فاروق الباز، يتحدث فيه عن تجربته المريرة، كما وصفها حين عاد إلى وطنه يحمل درجة الدكتوراه من أمريكا متعشما خدمة وطنه في مجال اختصاصه الجيولوجي، ليفاجأ بشرح الوزير أمام اسمه "يعين في قناة السويس، وتكليفه بتدريس مادة الكيمياء"، ليشعر بالصدمة، إذ كيف له تدريس مادة ليس متخصصا فيها، ما اضطره السعي الحثيث إلى مقابلة الوزير لمدة ثلاثة أشهر دون انقطاع، وفشل في ذلك، ما اضطر مدير مكتب الوزير إلى إرشاده إلى إحضار خطاب من أحد معارف الوزير، وهذا ليس بمقدوره كمتخرج حديث، ولا يعرف أحدا، كما أن مدير المكتب المتعاطف معه قال له تدريس مادة الكيمياء ليس بتلك الصعوبة، فما عليك إلا أن تقرأ على الطلاب من الكتاب، فما كان أمامه ولظروفه المادية الصعبة، إلا الذهاب إلى السويس للمباشرة، ومصادفة قابل زميلا سابقا يحمل دكتوراه في الفيزياء النووية، وأسند له تدريس مبادئ الفيزياء "الصوت والضوء"، ليجد في معاناة الزميل، ووضعه النفسي السيئ، سببا له للتراجع عن المباشرة، وسحب أوراقه.
هذا الموقف اضطر فاروق الباز، للعودة إلى أمريكا، ويصبح عالما من علماء وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، لم يتوسط له أحد ليعمل فيها، إنما مؤهله وجدارته العلمية أوصلاه إلى هذه المكانة، كما أن البيئة العامة في المجتمع الغربي الحاضنة للعلماء، والباحثين من أي جنس ولون أوجدت النظم التي تستقطب النابهين والمتميزين ليشكلوا إضافة إلى مجتمع المعرفة، والإنجازات المترتبة على ذلك في غزو الفضاء ودراسته وتوظيف النتائج بما يخدم أمريكا معرفيا، واقتصاديا، وعسكريا، وسياسيا.
المقطعان المشار إليهما فيما سبق يمثلان حالات تكشف كيف يتخذ القرار في المجال التعليمي في عالمينا العربي والإسلامي من أجل تحقيق مفاهيم تربوية، من خلال مسؤولين يؤملون خيرا في المخرجات، لتكون على القدر الذي يؤهلها إلى الإبداع في جميع المجالات، دونما استبعاد أو تقليل لمجال معرفي. وما واقع دول الغرب المتقدمة وتميزها في جميع مجالات المعرفة الطبيعية والإنسانية والاجتماعية إلا دليل قاطع على جودة البيئة والتشريعات وآلية اتخاذ القرار، سواء أصدره مسؤول، أو لجنة داخل المؤسسة التعليمية، أو أوعز باتخاذه مستشار مؤهل في مجاله وخبرته. ولعله من المناسب الإشارة إلى الناتج المعرفي الأمريكي الذي يمثل معينا مؤثرا في الساحة الدولية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في أحد الأعوام الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية فرع الطب اقتبس من أحد بحوثه 50 ألف باحث.
إنشرها