Author

القادة الجدد ووهم «مبدأ بيتر»

|

تحدث البروفيسور الكندي بيتر لورنس عن قصة تحدث للموظفين المتميزين. أطرها وعرفت فيما بعد بمبدأ بيتر. تختصر هذه القصة بالتالي، موظفا متميزا يعمل في بيئة عمل متنامية ومتطلبة وهرمية الهيكل، تتم ترقيته باستمرار ليجد نفسه لاحقا وبشكل مفاجئ في حالة عجز مهني واضح. أول من يلاحظها هم زملاؤه في العمل حتى موظفوه الأقل منه خبرة والأدنى في المستوى الوظيفي، لذلك ستستمع لمثل هذا السؤال الدارج، "كيف وصل مثل هذا إلى مثل هذه الوظيفة؟!". تزيد مثل هذه الحالات في ظروف معينة، منها وجود أداء متميز من الموظف يبعث على رفع سقف التوقعات، والنمو السريع في هذه المنظمة، ومنافسة شديدة على المواهب في سوق العمل، "وبالتالي استخدام الترقية كأداة تحفيز ومحافظة على الموظف"، وهيكل الشركة يسمح بمثل هذا التصاعد المستمر، وضعف الموظف في قدرته على الإدراك الذاتي خصوصا وعيه المهني وتقييمه لنفسه باستمرار، وأخيرا تدنت مهارات التعلم الذاتي والمستمر ـ لأن الموظف المتميز في قدرات التعلم الذاتي في الأغلب ما يستطيع تفادي الوقوع تحت ما يصفه هذا المبدأ، ويستطيع أن يقفز بقدراته باستمرار ويتجنب حالات العجز التي قد تحفزها الظروف والقرارات، التي يستفيد منها ولا تضره.
هناك أمثلة كثير على موظفين تعاملوا مع الترقيات المفاجئة والسريعة ابتداء من رؤساء الدول الذين يجيدون التعلم السريع والاستفادة من مصادر المعرفة المتاحة حولهم، حتى الوزراء ـ والوزير القصيبي يورد كثيرا من الأمثلة على التعلم الذاتي في كتابه حياة في الإدارة ـ حتى التنفيذيون اللامعون والمديرون. لكن الحالة المعاكسة التي نرى فيها تجسيد العجز والضعف المهني واضطراب الأداء لمتميز سابق، موجودة بكثرة كذلك، وهي كثيرا ما تكون محبطة للذين يتطلعون إلى كثير من هذا النجم السابق، أو من كان نجما لامعا في بداية حياته العملية ثم ما لبث أن هوى وبسرعة.
يتوارد مع مبدأ بيتر عدد من الظواهر الأخرى التي تفاقم الموقف. من أهم هذه الظواهر ما يسمى بتأثير داني وكروجر، وهو تأثير معلوم وقديم، أطره العالمان في نظرية عرفت باسمهما. يقول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وهناك من يقول إن ابن كلثوم الشاعر الجاهلي كان يقصد هذه الفئة في معلقته حين يشير إلى "جهل الجاهلين". يشرح تأثر داني وكروجر حالة الوهم الذاتي المرتبطة بالمعرفة والجهل، الذي يقول باختصار إن جهلنا بالأشياء يجعلنا أقرب إلى جهلنا بأننا نجهل هذه الأشياء، أو بطريقة ثانية، ميل غير المؤهل إلى المبالغة في تقدير الإمكانات الذاتية بسبب عدم قدرته على معرفة الحقيقة التي تمكن من ذلك. أعتقد أن الربط بين من يجد نفسه في حالات العجز الإنتاجي أو المهني أو الإداري بسبب سرعة ترقيته وبين تأثير داني وكروجر واضح جدا، فكثير من هؤلاء الناس يستمرون في تماديهم في معضلة ضعف الوعي الذاتي وتدهور حالة تأهيلهم، لأنهم لا يعرفون ذلك ولا يملكون القدرات التي تمكنهم من معرفة ذلك وعلى رأسها التعلم الذاتي السريع.
ويختلط مع هذه الظواهر ويتأسس بشكل قوي الاستناد إلى المفاهيم الخاطئة، فالجهل يولد الجهل. تصنع المواقف المستندة إلى الخبرات الضعيفة فهما خاطئا للأمور وتفسيرات حدوثها، فتجد من يتوافق نجاحه في قرار ما مع مدخلات مصاحبة غير مؤثرة يعتقد أن هذه المدخلات هي محدد النجاح الأهم، فيتشبث أكثر في لاحق الأيام بأسلوبه القاصر. ومثل هذا سرعان ما يحقق مبدأ بيتر بشكل أقوى، لأن إدراكه لذاته يقل مع تجاربه المختلطة ولا يتحسن. وبكل تأكيد، تزيد التحيزات والمغالطات وتتوافق مع هذه التحديات، مثل التحيزات اللاواعية ومغالطات الاستنتاج.
من الواضح أن هناك كما هائلا من الظروف التي تجعل الشخص معرضا لمثل هذه التحديات، ومن الواضح أيضا بأن المخرج الأهم مرتبط بالوعي الذاتي الذي قد يستمد أحيانا من التغذية الراجعة والتفاعل مع الآخرين، وبكل تأكيد التعليم الذاتي والمستمر.

إنشرها