اليابان ومعالجة رجل آسيا المريض
في زيارة رئاسية نادرة لزعيم فلبيني إلى اليابان، حل في طوكيو أخيرا الرئيس الفلبيني بونج بونج ماركوس على رأس وفد ضخم من الوزراء والمسؤولين ورجال الأعمال، فيما كانت المعارضة الفلبينية وصحفها تنتقد ليس من باب الاعتراض على الزيارة أو ضخامة الوفد المرافق، وإنما بسبب ولع الرئيس بالرحلات الخارجية التي بلغ عددها حتى الآن تسع زيارات، على الرغم من أنه لم يمض سوى سبعة أشهر على تسلمه سلطاته الدستورية.
وهو ما رد عليه ماركوس بالقول، "زياراتي تأتي ضمن أجندة جديدة للسياسة الخارجية لتكوين علاقات سياسية أوثق وتعاون أمني أقوى وشراكة اقتصادية دائمة مع دول المنطقة الكبرى، ولا سيما أننا نعيش في بيئة عالمية صعبة".
تأتي الزيارة النادرة للزعيم الفلبيني إلى اليابان وسط حالة عدم اليقين التي تسود منطقة جنوب وشمال شرق آسيا بسبب القلق من سياسات واستراتيجيات العملاق الصيني. ويبدو أن ما ألح على الزعيم الفلبيني أن يشد الرحال إلى طوكيو ليس هذا السبب وحده، وإنما أيضا الضائقة الاقتصادية التي تواجه بلاده المنعوتة في الأدبيات السياسية الآسيوية بـ"رجل آسيا المريض" كناية عن فشلها في الصعود تنمويا واقتصاديا ومعيشيا إلى مصاف جاراتها وشريكاتها في رابطة آسيان.
المعلوم أن اليابان منذ أن سحبت قواتها من الفلبين على أثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، ومنذ أن طبع الجانبان علاقاتهما البينية في 1956، ظلت من أكثر الدول الداعمة للفلبين اقتصاديا وعسكريا وتنمويا، بل خصتها بمعاملة متميزة لجهة إغداق القروض والمعونات والمنح.
من ناحية أخرى جاءت الزيارة بعد أسبوع واحد فقط من إعلان كل من واشنطن ومانيلا، توقيع اتفاقية جديدة مكملة لاتفاقية "الوصول المتبادل" لـ2014، التي تسمح لواشنطن باستخدام أربع قواعد عسكرية جديدة في الفلبين، إضافة إلى خمس قواعد سابقة تعهدت بإنفاق 82 مليون دولار على تطوير بنيتها التحتية ومرافقها، وبما يتيح لها نشر قواتها على الأراضي الفلبينية للتدريب والعمليات العسكرية، وهو ما جعل المراقبين يزعمون مبكرا أن لقاء ماركوس نظيره الياباني فوميو كيشيدا قد ينجم عنه اتفاق دفاعي مشابه أو أوسع مدى.
والحقيقة أن اللقاء خيمت عليه بالفعل القضايا الدفاعية والأمنية، سعيا من الدولتين إلى مواجهة توسع طموحات الصين في المنطقة، ولا سيما أن لدى كليهما ملفات شائكة مع بكين حول الأراضي وحرية الملاحة والتنقيب والصيد في المياه الدولية المحاذية.
وليس أدل على صحة هذه الجزئية من قول ماركوس في ختام لقائه مع كيشيدا، "إن شراكتنا الاستراتيجية أقوى اليوم من أي وقت مضى، فيما نبحر معا في المياه المتقلبة في منطقتنا".
وربما، تفاديا لإثارة غضب بكين أرجأ الزعيمان الياباني والفلبيني الإعلان عن توصلهما إلى اتفاقية شبيهة باتفاقية "الوصول المتبادل RCA" بين واشنطن ومانيلا، واكتفيا بالإشارة إلى أن محادثاتهما أسفرت عن الاتفاق على إجراءات لتسريع نشر الجنود من الجانبين في إطار المساعدة الإنسانية والإغاثة في حال حصول كوارث.
علما بأن اليابان أصبحت في الأعوام الأخيرة شريكا أمنيا مهما للفلبين من خلال قيام الأولى بتحديث سلاح البحرية والحدود الفلبيني، والتزام الطرفين بالتعامل مع التهديدات الجيوسياسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
غير أن هذا لا ينفي احتمالات أن يطور الجانبان هذا الاتفاق في المستقبل القريب إلى صيغة مطابقة لاتفاقية "الوصول المتبادل"، خصوصا إذا ما ألحت طوكيو التي تربطها اتفاقات عسكرية مماثلة مع بريطانيا وأستراليا هدفها غير المعلن هو تطويق الطموحات الصينية، دعك مما يتردد على ألسنة الخبراء والمراقبين عن وجود نية لتشكيل "حلف شمال أطلسي آسيوي" في مواجهة العملاق الصيني.
من ناحية أخرى، تمخضت زيارة ماركوس لليابان عن توقيع اتفاقيات عدة أخرى في مجالات البنى التحتية والزراعة والتكنولوجيا والاقتصاد الرقمي، تكللت بإعلان كيشيدا أن حكومته والقطاع الياباني الخاص سيقدمان للفلبين برنامج تنمية عاجلا يستمر حتى آذار (مارس) 2024 بقيمة 600 مليار ين "4.3 مليار يورو".
وهذا ليس بمستغرب على اليابان التي، كما أسلفنا، تعد من أكثر الدول استثمارا في التنمية الاقتصادية والصناعية للفلبين "بدليل إنفاقها نحو 29 مليار دولار على مشاريع البنية التحتية الفلبينية في الأعوام الأخيرة فقط"، كما أنها الوحيدة التي وقعت مع مانيلا اتفاقية للتجارة الثنائية وأخرى للشراكة الاقتصادية، وهي التي اختارت مانيلا في 1966 لتكون مقرا لمؤسسة مالية حكومية دولية وإقليمية رائدة ممثلة في بنك التنمية الآسيوي ADB.