Author

ارتفاع الفائدة .. خيارات المستثمرين والمستهلكين

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

أدى الارتفاع المطرد والمتسارع لمعدل الفائدة خلال أقل من عام مضى بنحو 425 نقطة أساس، إلى انكماش السيولة في أغلب النشاطات والأسواق المحلية، تبين أثره في عرض النقود "ن1" بصورة ملموسة خلال 2022، بتراجع نموه السنوي من 5.1 في المائة بنهاية 2021 إلى انكماشه سنويا 2.3 في المائة بنهاية 2022، وظهر أيضا على الودائع تحت الطلب التي انخفض نموها السنوي للفترة نفسها من 6.0 في المائة، إلى انكماشها 2.3 في المائة بنهاية 2022، وظهر أيضا بوضوح على القروض العقارية الممنوحة للأفراد، بتباطؤ نموها السنوي في نهاية 2021 من 39.5 في المائة، إلى نحو 22.4 في المائة بنهاية 2022، وهو ما وثقته القروض العقارية الجديدة للفترة ذاتها بانخفاضها لأول مرة منذ نشر بياناتها خلال 2022 بـ21.1 في المائة، ووفقا لتوقعات إحدى شركات الاستثمار المحلية، يقدر أن يستمر تراجعها خلال العام الجاري بنحو 30 في المائة، تزامنا مع استمرار الارتفاع الراهن في معدل الفائدة "تكلفة الرهون العقارية".
وكما أصبح معلوما لدى الكثير، فإن التحكم في حجم السيولة في الاقتصاد زيادة أو خفضا، يعد أحد أهم الأهداف الرئيسة لأي بنك مركزي حال اتخاذه مثل هذا القرار برفع أو خفض معدل الفائدة، تحقيقا لإحدى أهم وظائفه ومسؤولياته بالمحافظة على استقرار العملة الوطنية.

ويسعى البنك المركزي من خلال رفع معدل الفائدة إلى خفض حجم السيولة في الاقتصاد، الذي بدوره سيؤدي إلى كبح التضخم في الأسعار، والمحافظة من ثم على استقرارها في الأسواق والنشاطات، والعكس صحيح أيضا، في حال قرر البنك المركزي خفض معدل الفائدة، فإنه يستهدف تحفيز نمو السيولة وضخها في مختلف نشاطات الاقتصاد، دفعا بها نحو مزيد من الانتعاش والنمو والتوسع.

في كلتا الحالتين، تتم مثل هذه القرارات ضمن تفاصيل أوسع وأدق -ليس هذا مجال الحديث عنها- ضمن السياسة النقدية المعمول بها محليا، وتكاملها مع بقية السياسات الاقتصادية الكلية في الاقتصاد.
لهذا، ترتبط أي قرارات من البنك المركزي برفع أو خفض معدل الفائدة، بعديد من المتغيرات الاقتصادية الكلية، على رأسها معدلات النمو الاقتصادي والاستثمار والوظائف، التي تقوم وفقا للنظرية الاقتصادية على كونها علاقة عكسية.

ففي حال ارتفع معدل الفائدة، أثر ذلك سلبا في نمو تلك المتغيرات المشار إليها سالفا، والعكس أيضا صحيح، في حال انخفضت الفائدة جاءت الآثار إيجابية في النمو والاستثمار وتوسع المنشآت في صنع الوظائف، وكما سبقت الإشارة إليه بخصوص التعقيد والتفاصيل الدقيقة والواسعة، التي تتحكم في منهجية تبني وتنفيذ تلك السياسات كافة "نقدية، مالية، اقتصادية"، لا بد من التأكيد على أنها سياسات ديناميكية تتفاعل مع الأوضاع القائمة والمحيطة بالاقتصاد، فلا دوام على الإطلاق لأي من ارتفاع الفائدة أو انخفاضها أو لمستوياتها التي يقوم البنك المركزي بتحديدها، بل ترتبط بدرجة لصيقة بالتطورات والمتغيرات الاقتصادية، وبناء على تلك التطورات يقوم البنك المركزي بتحديد مستويات معدل الفائدة.
سيأتي الحديث المختصر جدا حول خيارات المستثمرين والمستهلكين في حال ارتفاع الفائدة، لكونها هي الحالة القائمة خلال الفترة الراهنة، بدءا من المستثمرين الذين سيكونون أكثر تحفظا أمام توسيع استثماراتهم الراهنة، أو حتى الخوض في استثمارات جديدة، أخذا في اعتباراتهم أن تكلفة التمويل ارتفعت مقارنة بسابق عهدها، ويزداد ذلك التحفظ في حال شهدت تلك التكلفة تسارعا لافتا، وتوقعاتهم بانكماش هوامش الأرباح في الأجلين القصير والمتوسط، قياسا على الانكماش المتوقع لحجم السيولة لدى أفراد المجتمع، وتزداد تلك الاعتبارات أهمية لدى المستثمرين فيما يتعلق بالسلع المعمرة والأصول كالعقارات، التي تتطلب بدرجة كبيرة جدا الاعتماد على التمويل البنكي، وفي الأغلب ما تلجأ شريحة واسعة من المستثمرين في مثل الأوضاع الراهنة من ارتفاع الفائدة، إلى تقديم خصومات سعرية للمستهلكين للمحافظة على التدفقات الداخلة، وعدم ارتفاع المخزون لديها، بما لا يؤثر سلبا في استمرارية نشاط منشآتهم، وبما يسهم في المحافظة على مراكزهم المالية تجاه الموردين والممولين.
أما بالنسبة إلى المستهلكين، فلا يوجد نمط بعينه لاختلاف قدراتهم من حيث الدخل والادخار والاستهلاك، إضافة إلى اختلاف الالتزامات المالية القائمة عليهم، واختلاف وتباين احتياجاتهم وأذواقهم الاستهلاكية وظروفهم الاجتماعية، إلا أنه من أهم الخيارات الأفضل بالنسبة إليهم في مثل الظروف الراهنة، أن يتم تجنب الاقتراض لآجال طويلة قدر الإمكان، وإن كان لا بد من ذلك لأجل اقتناء مسكن، على سبيل المثال، أن يجتهد المستهلك قدر الإمكان بتعويض التزامه بمثل هذا الالتزام طويل الأجل، بالعمل الدؤوب على حصوله على خصم سعري جيد، يقلص من خلاله حجم الارتفاع في تكلفة التمويل، أو أكبر قدر ممكن منه على أقل تقدير، وقد يمتلك قدرة تفاوضية عالية تمكنه من الحصول على خصومات سعرية تتجاوز حتى الارتفاع في تكلفة التمويل، وهذا أمر ستزداد سهولة تحقيقه في حال طال أمد ارتفاع معدل الفائدة لفترة أطول، واتجهت السوق "أي سوق" إلى مزيد التنافسية والتنوع ووفرة المعروض من سلعها ومنتجاتها وخدماتها.
إجمالا، في حال توافرت السيولة بدرجة أكبر في الاقتصاد ولدى الأفراد "المستهلكين" الذين يمثلون جانب الطلب، فذلك يعني ميل القوة لمصلحة جانب العرض "المستثمرين"، التي تمنحهم مرونة أكبر نحو رفع أسعار سلعهم ومنتجاتهم وخدماتهم، مقابل ضيق الخيارات لدى المستهلكين، قياسا على الوفرة الكبيرة في السيولة وفي أعداد المشترين المحتملين.

أما في حال خضعت السيولة إلى الانكماش في الاقتصاد ولدى الأفراد، فتدريجيا ستميل القوة لمصلحة الطلب "المستهلكين"، فتتوسع خياراتهم وقدرتهم التفاوضية، مقابل ضيقها على عكس ما سبق لدى جانب العرض "المستثمرين"، الذين سيجدون أنفسهم مقارنة بحالتهم السابقة مضطرين إلى تقديم خصومات تحفيزية، وتزداد الضغوط البيعية عليهم في حال ارتفعت التنافسية في الأسواق أو نشاطات العاملين فيها، وتزداد الضغوط بدرجة أكبر لتشمل حتى تلك الأسواق الأدنى تنافسية في حال طال أمد انكماش السيولة وقدرة الطلب.
بناء عليه، يمكن التأكيد على أن الأوضاع الراهنة فترة بعد فترة، تميل لمصلحة جانب الطلب "المستهلكين"، التي تقتضي منهم البحث عن أفضل الخيارات السعرية ومن حيث الجودة أيضا.

في المقابل، سيكون على جانب العرض "المستثمرين" التكيف مع الأوضاع الراهنة، بما يكفل لهم المحافظة على حصصهم السوقية ومراكزهم المالية، واتخاذ الاستراتيجيات طويلة الأجل الهادفة إلى تعزيز استقرارهم وحصصهم ومراكزهم.

إنشرها