Author

المؤشرات الاقتصادية الإيجابية والتحديات الراهنة

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

نما الاقتصاد الوطني بمعدل نمو حقيقي لافت خلال 2022 بنحو 8.7 في المائة، وفقا للتقديرات السريعة للناتج المحلي الإجمالي الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء، ويعزى النمو بدرجة أكبر إلى النمو القياسي للأنشطة النفطية، التي نمت خلال الفترة نفسها بنحو 15.4 في المائة، مقابل نمو الأنشطة غير النفطية بنحو 5.4 في المائة.

جاءت معدلات الأداء الجيدة تلك على الرغم من التقلبات التي شهدها الاقتصاد العالمي ولا يزال يصارعها حتى تاريخه، نتيجة عوامل عديدة ولد قسم منها أثناء تفشي الجائحة العالمية، وقسم آخر في العام التالي للجائحة، وانضم إليها خلال العام الماضي اشتعال فتيل الصراع الروسي - الأوكراني بالثقل الكبير لتداعياته على كاهل الاقتصاد والتجارة والأسواق العالمية، ثم ازدادت وطأة التحديات مع التحول السريع والمتشدد لسياسات البنوك المركزية حول العالم، تصديا للموجة الأعلى للتضخم منذ أكثر من أربعة عقود زمنية مضت، ولا تزال البنوك المركزية ماضية في سياسات رفع معدلات الفائدة بمضاعفات راوحت بين أربعة وخمسة مضاعفات خلال أقل من عام، ارتفعت معها تكلفة تمويل النشاطات الاقتصادية والأسواق، وزادت من الضغوط على أغلب أسواق العمل حول العالم، ما أدى في مجمله إلى خفض توقعات نمو الاقتصاد العالمي خلال العام الجاري، بل ذهبت إلى احتمالية دخول عديد من الاقتصادات الكبرى في فترة ركود خلال النصف الثاني من هذا العام.
حافظت اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي على نظرتها الإيجابية خلال العام الجاري، لكنها جاءت أدنى من المعدلات الإيجابية التي تحققت خلال العام الماضي، على رأس تلك الاقتصادات الاقتصاد الوطني، وهذا بالتأكيد يبعث درجات جيدة من الثقة به وببقية اقتصادات دول المنطقة، ويؤمل أن تصل بمستوياتها المتينة إلى الدرجة التي تحفز على نمو الاستثمار رغم من ارتفاع كل من تكلفة التمويل والمخاطر، وأن تسهم في تحقق معدلات نمو إيجابية كافية في سوق العمل المحلية، التي نجح خلالها القطاع الخاص من النمو بحجم وظائف العمالة المواطنة بنحو 13.0 في المائة خلال 2022، مقارنة بنحو 9.8 في المائة خلال 2021، وقلص بدوره معدل البطالة إلى 9.9 في المائة "الربع الثالث 2022"، مقارنة بمعدله 11.0 في المائة في نهاية 2021.
لا شك أن الاقتصاد العالمي يسير على أرض مكتظة بكثير من الأشواك، التي يرى بعضها وبعضها الآخر ما زال مختفيا تحت مستويات أعمق، لم تتمكن بعد أعين قادة الاقتصادات والأسواق حول العالم من التأكد منها، في الوقت ذاته تتحرك البنوك المركزية على مسار هو الأكثر تشددا منذ أكثر من عقدين من الزمن، هدفها الرئيس هو كبح التضخم وإن جاء تحقيقه على حساب النمو الاقتصادي وارتفاع معدل البطالة ودخول الأسواق في موجات حادة من التذبذب.
هذا يعني بدوره أن الوصول إلى فرص الاستثمار والنمو وارتفاع الوظائف يعترضه تحديات أكبر من السابق، مع التأكيد هنا أن هذه النافذة ليست متاحة لدى أغلبية الاقتصادات حول العالم كالاقتصادات الأدنى دخلا بدرجة أكبر، ودون استثناء عديد من الاقتصادات المتقدمة والكبرى، ويبقى على الاقتصادات التي لا تزال هذه النافذة متاحة أمامها، العمل بكفاءة وديناميكية أسرع لأجل عبور العام الجاري بأكبر قدر من المكاسب الممكنة، وفي الوقت ذاته تجنب وتجاوز القدر الأكبر من التحديات المحلية والخارجية على حد سواء، وكل ذلك مرهون بمنظومة السياسات والبرامج الكلية، التي قد يتعين عليها الاعتماد على منهجية استثنائية ومرحلية تتواءم مع تحديات ومخاطر المرحلة الراهنة "2023 ـ 2024".
تقوم الأولويات الاستراتيجية للاقتصاد الوطني على المضي قدما في ترجمة مستهدفات رؤية المملكة 2030 على أرض الواقع، وهو ما نجحت بلادنا في تحقيقه - بحمد الله - طوال الأعوام الماضية، بما فيها العام الذي نشأت فيه الجائحة العالمية، ونجحت أيضا فيه خلال العام الماضي الذي شهد نشوء الاضطرابات الجيوسياسية في عديد من أنحاء العالم، وتحت الضغوط التي تسببت فيها البنوك المركزية، ويأتي العام الجاري والمقبل وفقا لأغلب التوقعات حاملين أجزاء كبيرة من التحديات التي نشأت وما زالت قائمة في أعوام سابقة، وسيضاف إليها مستجدات لا تقل أعباؤها ومعوقاتها عما سبق.
يأتي التركيز خلال الفترة الراهنة في ظل الخيارات الاقتصادية والمالية المتينة التي يتمتع بها الاقتصاد الوطني على، أولا، الاستمرار في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، التي أسهم تحققها - بعد توفيق الله - في زيادة متانة وقوة الاقتصاد الوطني في وجه التحديات التي نشأت عن الأزمات التي شهدها الاقتصاد العالمي طوال 2020ـ 2022، ويؤمل - بمشيئة الله تعالى - أن تستمر في تعزيز استقراره ومتانته خلال العامين الجاري والمقبل.

ثانيا، تحفيز القطاعات المنتجة من الاقتصاد الوطني، ولعل ما شهده الاقتصاد أخيرا من انعقاد منتدى فرص وتدشين المركز السعودي للأعمال، هو جزء بالغ الأهمية على هذا الطريق التنموي، والعمل في الوقت ذاته على تشديد إجراءات ومبادرات محاصرة النشاطات غير المنتجة من مضاربات على الأراضي ونشاطات التستر التجاري، التي تتسابق مع القطاعات المنتجة بأشكال خارج دائرة المنافسة على اجتذاب السيولة والثروات المتوافرة، عدا ما تسبب فيه من آثار تضخمية في أسعار الأصول والسلع والخدمات، وغيره من الممارسات المخالفة التي يصعب حصر آثارها العكسية على الاقتصاد والمجتمع في سطور معدودة هنا، وهي بالتأكيد الآثار التي أصبحت معلومة لدى أغلبية الأفراد.
ثالثا، اتخاذ الإجراءات والتدابير العاجلة واللازمة في مواجهة عديد من الظواهر العكسية، والعمل على إيجاد الحلول اللازمة لها، كالازدحام المروري الشديد الذي بدأت تشهده عديد من المدن الرئيسة، خصوصا الرياض، إضافة إلى ارتفاع الأسعار والإيجارات في القطاع العقاري "سكني، تجاري، صناعي"، وكلاهما يؤدي إلى زيادة المعوقات والأعباء والتكاليف على كاهلي القطاعين الإنتاجي والاستهلاكي، ويحد بوجودهما من تحقق عديد من المستهدفات التنموية والاقتصادية والاجتماعية، في الوقت ذاته الذي تتوافر ـ بحمد الله ـ الموارد والإمكانات اللازمة لتجاوزهما بأدنى قدر من التكاليف. والله ولي التوفيق.

إنشرها