حرب تجارية بذرائع اقتصادية

يصعب النظر إلى العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين بصورة سطحية، فهذه العلاقات متداخلة ومعقدة حقا في الوقت نفسه، رغم الحرب التجارية، واتساع رقعة الخلافات بين أكبر اقتصادين في العالم، ومع خروج دونالد ترمب من الحكم في الولايات المتحدة، توقع المسؤولون الصينيون أن تكون العلاقات الاقتصادية والسياسية مع إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن أكثر انفراجا، غير أن الأمر مضى عكس كل التوقعات، مع تمسك واشنطن بسياسات ترمب بهذا الخصوص، ولا سيما مع تفاقم الخلافات بين واشنطن وبكين بشأن قضايا سياسية وجيوسياسية أخرى، وعلى رأسها المسألة التايوانية، وتدخلات بكين بتفاصيل إدارة هونج كونج، فضلا عن الخلافات الخاصة بحقوق الإنسان، إضافة إلى مخططات الصين التوسعية في المنطقة الآسيوية على حساب النفوذ الأمريكي التقليدي المعهود.
لكن رغم كل هذه العوامل يمثل حجم التجارة الضخم الذي يربط البلدين قوة تعزز الزخم والقوة في العلاقات، فحتى بعدما أعلن الرئيس الأمريكي السابق فرض رسوم جمركية عالية وقاسية على الواردات الصينية، لم تتراجع قيمة الحراك التجاري مع بكين بصورة كبيرة. ومع تفاقم الحرب التجارية بين الطرفين انخفضت قيمة السلع الأمريكية المستوردة من الصين من 5.6 مليار دولار 2017 إلى 4.5 مليار دولار في 2019. وهي نسبة قليلة بين طرفين يفترض أنهما في مواجهة تجارية باتت جزءا أصيلا من المشهد الاقتصادي العالمي ككل. وخلال العامين الماضيين تأثرت هذه التجارة بصورة سلبية أيضا بفعل الآثار التي تركتها جائحة كورونا على الساحة الدولية ككل في أعقاب هذه الأزمة ارتفعت التجارة بين البلدين رغم كل العوامل المشار إليها.
ولا شك أن المواجهة الاقتصادية بين واشنطن وبكين، لن تتوقف في المرحلة المقبلة، فهي تشمل نواحي محددة جديدة مثل الجانب الخاص بإنتاج أشباه الموصلات التي تسعى إدارة بايدن إلى تصدير معدات تصنيعها للصين وتدفع حلفاءها لاتخاذ مواقف مشابهة. وتشير توقعات إلى إمكانية ارتفاع أرقام التجارة بين البلدين عندما يتم الإعلان رسميا عن البيانات الخاصة بها في الأيام القليلة المقبلة. والواقع أن بعض حجم توريد السلع الصينية إلى الولايات المتحدة تراجع فقط في حدود المنتجات التي تم فرض رسوم جمركية أمريكية عليها. أي أن وتيرة باقي السلع ظلت على مستوياتها، باستثناء فترة كورونا. ولا شك أيضا أن الإجراءات المقيدة طويلة الأمر التي فرضتها الحكومة الصينية لمحاصرة جائحة كورونا تحت خطة صفرـ كوفيد، أسهمت في تراجع حجم الصادرات الصينية إلى العالم أجمع، بما فيه الولايات المتحدة.
ومن العوامل التي أسهمت في تراجع الواردات الصينية إلى الساحة الأمريكية في الأعوام القليلة المقبلة، أن القدرة الشرائية للمستهلك الأمريكي انخفضت بسبب التحولات الخاصة بالموجة التضخمية العاتية الراهنة. كل هذا أسهم في تراجع حجم التجارة بين بكين وواشنطن، إلى جانب العامل الأهم والأقدم، المتمثل في المواجهة على صعيد الرسوم الجمركية. فكلا البلدين اتخذ قرارات انتقامية على صعيد رفع هذه الرسوم. وفي المحصلة، يبقى حجم التجارة مرتفعا بين القطبين الدوليين، ما يطرح مسألة التشابك الواسع بينهما. لكن هذا لا يعني أن الوضع يمكن أن يستمر على ما هو عليه إلى الأبد.
فمخططات الإدارة الأمريكية الحالية تركز على الاعتماد على الإنتاج المحلي، عبر رفع الطلب وحتى توفير مرتكزات دعم لبعض الصناعات المحورية أو تلك التي تدخل ضمن نطاق الأمن القومي. فالمسألة برمتها خاضعة إلى التحولات والتغييرات التي ستشهدها المرحلة المقبلة، في ظل تغير المشهد العام لعلاقة مضطربة ومتداخلة بين أكبر اقتصادين في العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي