Author

تكريس الانفصال والمصاعب الاقتصادية

|

تواجه بريطانيا -كغيرها من الدول الغربية ذات الاقتصادات الكبيرة- مصاعب اقتصادية، بعضها متفاقم والبعض الآخر منها يظل تحت السيطرة. والواضح أن هذه المصاعب لن تخف في وقت قصير.

وزاد انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي "بريسكت"، من الضغوط على البلاد، ولا سيما مع وجود قضايا محورية لا تزال عالقة في أعقاب الخروج التاريخي، على رأسها وضعية إقليم أيرلندا الشمالية، وروابطه البريطانية والأوروبية والدولية.

وتشير الاستطلاعات التي تظهر بين الحين والآخر، إلى ارتفاع عدد أولئك الذين يعتقدون أن "بريسكت" كان خطأ من جانب الناخبين الذين صوت 51.9 في المائة منهم لمصلحة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الشهير الذي جرى في 2016، وأدى إلى إتمام الانسحاب في 2020.
الحكومات المحافظة المتعاقبة التي أتت منذ الاستفتاء إلى الحكم، تواجه أيضا معضلة تتعلق بغياب أي دور للمملكة المتحدة في رسم بعض السياسات المحورية المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي، التي تتعلق بها، رغم أنها خارج هذا الكيان، وفي مقدمتها السياسة الصناعية، وبالطبع قضايا الاستقلال الاستراتيجي المتعلق بمستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة على صعيد التضخم في هذه الأخيرة، إضافة إلى الشكل النهائي للاتفاق التجاري المتأخر بين لندن وواشنطن، الذي لا يمكن فك روابط أساسية له مع الاتحاد الأوروبي من الجانب الأمريكي، فضلا عن المبادرات التي يقوم بها الأوروبيون. ولا يتصور أحد أن تكون بريطانيا بعيدة عنها.

مع التأكيد مجددا على ما يمكن تسميته بـ"المنغص الأيرلندي" لأي شكل من أشكال العلاقات بين الطرفين.
بالطبع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي حرمها من مناقشة قضايا محورية أساسية تتعلق بالجانب الاقتصادي، إلا أنها في الآونة الأخيرة بدأت تنغمس ما أمكن لها في مسائل سياسية محورية بالطبع، بخلاف الجهود المشتركة عبر المنظمات الدولية، وعلى رأسها حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ودوره الراهن في توفير الدعم اللامحدود لأوكرانيا ضد الحرب الروسية فيها. ورغم أهمية هذه المسائل إلا أن تلك المتعلقة بالاستراتيجية الاقتصادية تمثل أهمية كبرى، خصوصا أن بريطانيا تصدر ما لا يقل عن 55 في المائة من منتجاتها إلى الكتلة الأوروبية، وكذلك أيضا الروابط الجغرافية المتداخلة.

لكن في المحصلة، يعتقد البعض أن انخراط بريطانيا في بعض المسائل السياسية الأساسية مع هذه الكتلة يمثل خطوة إلى الأمام في تمتين الروابط في الميادين الأخرى، خصوصا إذا ما وصلت حكومة عمالية إلى الحكم في البلاد في الانتخابات العامة المقبلة.
وبعيدا عن المسائل العسكرية والدفاعية التي تجد لندن موطئ قدم لها في الدائرة الأوروبية بالطبع، فلا تزال هناك تحديات اقتصادية خطيرة، دفعت حتى نسبة من أولئك الذين أيدوا "بريسكت" إلى الحديث عن إمكانية عودة بريطانيا للانضمام إلى منطقة التجارة الأوروبية الحرة.

فقد أظهرت الحواجز التجارية التي ظهرت في اليوم الأول للانفصال، مدى الأضرار على الجانب البريطاني أكثر منه على الجهة الأوروبية.

وهنا يعيد سياسيون في لندن النظر في مسألة الانفصال التام، إلا أن المسألة ليست سهلة، لأن التيار المتشدد ضد أوروبا لا يزال يحكم البلاد، بل وصل إلى الحكم بدعم تشدده. ولا بد من انتخابات عامة جديدة لتغيير شكل الخريطة السياسية المحلية عموما.
لن تكون المملكة المتحدة على طاولة رسم السياسات الأوروبية في المستقبل، وهذا أمر طبيعي، لكنها تستطيع أن تدعم وجودها، ليصل إلى مستوى وجود دول أوروبية ليست ضمن الكيان الأوروبي، لكنها شريكة أساسية في كثير من المبادرات والسياسات والاستراتيجيات.

وحتى هذا الشكل من العلاقة بين لندن وبروكسل لا يزال يلقى معارضة من المتشددين الذين يسعون إلى تكريس القطيعة مع الاتحاد الأوروبي، أكثر من التعاون معه.

إنشرها