الصراع العالمي لفرض الهيمنة التكنولوجية «1من 3»

قـدم لنا العام الماضي بعض الدروس القديمة حول منافسات القوى العظمى. لكنه قدم أيضا بعض الدروس الجديدة حول الكيفية التي تعمل بها التكنولوجيا على تغيير التضاريس الاستراتيجية.
لم يعد هناك أي شك بشأن التحدي الذي تفرضه بعض الدول والأنظمة الأخرى على سيادة القانون الدولي، واحترام السيادة، والمبادئ السياسية، والشعوب الحرة. تنامت هذه التهديدات مع تسخير بعضها تكنولوجيات جديدة لمراقبة السكان، والتلاعب بالمعلومات، والتحكم في تدفق البيانات. تقدم هذه الأنظمة مثالا للكيفية التي تقوم بها بعض الدول لتتمكن من إحكام قبضتها على حرية الفكر والتعبير، وتكوين الجمعيات. قد تشكل التدابير الصارمة التي تفرضها بعض الدول لخفض الإصابات بمرض فيروس كورونا إلى الصـفر اختبارا لهذه السيطرة، لكن استخدامها تكنولوجيات مثل الطائرات المسيرة دون طيار لمراقبة الالتزام بالحجر الصحي يمثل حقبة جديدة من التجاهل والتعتيم الرقمي.
تزامن تصاعد التوترات الجيوسياسية مع توغلات متنامية إلى مختلف جوانب الحياة العامة والخاصة بالاستعانة بتكنولوجيات تخريبية. والتداعيات المترتبة على هذا في 2023 وما بعده واضحة، حيث تشكل منصات تكنولوجيا المستقبل الآن التضاريس الجديدة للمنافسة الاستراتيجية. وعلى هذا فإن الولايات المتحدة لديها مصلحة أساسية في التأكد من أن هذه التكنولوجيات مصممة ومبنية ومطبقة ومحكومة بوساطة أنظمة سياسية.
وحول نافذة أوكرانيا على المستقبل، فإنه تساعدنا مقاومة أوكرانيا لمواجهة الحرب "بدعم كبير من ديمقراطيات أخرى"، على فهم الكيفية التي تعمل بها التكنولوجيا على تحويل هيئة الجغرافيا السياسية. أوكرانيا دولة شديدة الترابط وبارعة في توظيف التكنولوجيا، وسرعان ما توحدت ضد خصم أكبر كثيرا بدا في مستهل الأمر كأنه يمتلك ميزة عسكرية ساحقة. الآن تفوز أوكرانيا بأول حرب شبكية رقمية في العالـم، لأنها نجحت في تسخير الإبداع البرمجي وتعظيم استخدام تكنولوجيا المصادر المفتوحة وإضفاء طابع لا مركزي على العمليات. وكل قدراتها التكنولوجية مترابطة بفعل الوصول غير المنقطع إلى الإنترنت.
تقدم أوكرانيا أيضا لمحة من الهيئة التي قد تبدو عليها الديمقراطية القائمة على التكنولوجيا، تسمح الخدمات المستندة إلى السحابة السيبرانية للحكومة بالتواصل بشكل مباشر مع المواطنين، في الأغلب من خلال أجهزة الاستخدام اليومي مثل الهواتف الشخصية المزودة ببرمجيات التشفير والخصوصية. ويعمل القادة السياسيون وصناع السياسات الشباب المبدعون من كثب مع قوة عمل تكنولوجية موهوبة، لاكتساح عقود من التصلب البيروقراطي. إذا كان بوسع أوكرانيا أن تبدع في ظل ظروف الحرب الحالية الدائرة، فإن كل الديمقراطيات الأخرى قادرة على القيام بذلك أيضا.
ساعدت شركات كبيرة وصغيرة من مختلف أنحاء العالـم على دعم التحول نحو التكنولوجيا أولا، حيث ظهرت باعتبارها قوى استراتيجية مهمة في حد ذاتها. فقد عملت على حماية البيانات المالية والحكومية الأوكرانية المهمة في وقت مبكر بتحويلها إلى السحابة السيبرانية، كما قدمت تحذيرات من الهجمات السيبرانية وتصدت لها، وساعدت على إبقاء الأوكرانيين على اتصال مباشر ببعضهم بعضا وبشبكة الإنترنت العالمية، حتى يعرف العالم جرائم الحرب التي ترتكب، في غياب النظام البيئي الأوسع اللازم للوصول إلى منصات التكنولوجيا، ربما كان الصراع ليتخذ مسارا مختلفا تمام الاختلاف.
لكن تخيل الآن مستقبلا تتحكم فيه بعض الدول في التكنولوجيات والشركات التي تشرف على الوصول إلى الشبكة، وتحمي الشبكات من التهديدات السيبرانية، وتشيد البنية الرقمية الأساسية، وتحدد الرسائل التي تجب مراقبتها، وتدير تدفقات البيانات الحساسة. كان العالم ليصبح عامرا بالقهر المنهجي والهجمات البيانية التي تنتهك الخصوصية الفردية، حيث يقـضـى على سبل الحماية الأساسية لحرية التعبير. إذا حدث هذا فلن تتمكن أوكرانيا أو أي دول أخرى ـ ولا أي نظام حكم آخر ـ من التحكم في مصيرها.
خاص بـ «الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2023.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي