Author

حوكمة الشركات .. المفاهيم والمصالح

|

الإسلام دين عظيم، شامل لكل نواحي الحياة صالح لكل زمان، قال تعالى في سورة المائدة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، وكما أشارت خطبة المسجد النبوي الشريف الجمعة الماضي، إلى أن من مقاصد الشريعة الإسلامية عمارة هذا الكون بكل ما يعود على الناس بالنفع والمصلحة العامة والخاصة للمجتمعات والأفراد، ويدرأ الفساد والشر العريض.
فالإسلام بقدر ما يهتم بالمصالح الخاصة يؤكد ضرورة احترام العمل من أجل المصلحة العامة، وفي السنة النبوية الكريمة ما يثبت اهتمام النبي بهذا الجانب، فقد كلف عددا من الصحابة بأعمال ومهام هدفها رعاية المصالح العامة، التي نسميها اليوم بالوظيفة العامة، ومن ذلك وظيفة جمع أموال الصدقة، وحراسة بيت المال، وقد تبعه في ذلك الخلفاء الراشدون -رضوان الله عليهم- ففي عهد عمر بن الخطاب تم إنشاء الدواوين، وهي مؤسسات عامة تعكس لغة العمل اليوم، وكان هناك من يراقب أعمال من يقوم بهذه المهمة.
كما كان الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- يحاسب جامعي الصدقات، ويحصي ما جمعوه، ونهى بشدة من تم تعيينه لعمل في المصلحة العامة عن أن يأخذ هدية.

ولو دققنا النظر وتتبعنا النصوص لوجدنا في الإسلام منذ اللحظات الأولى قواعد واضحة لحوكمة الوظيفة العامة، والمال العام، وأنه لا يجوز المساس بها بأي شكل وأن هدف هذه القواعد حماية المصالح العامة، بل إن الرسول الكريم قد سمى الاختلاس من الأموال العامة غلولا، ووعد وعيدا شديدا في الآخرة لمن اختلس من الأموال العامة، أو أخذ شيئا دون وجه حق.
هذه المفاهيم الإسلامية العظيمة لم تكن معروفة عند العرب قبل الإسلام، لقد كانت مفاهيم متقدمة وتؤسس لقيام دولة وحكومة ترعى مصالح الناس وتحمي المنفعة العامة، وقد جاء في خطبة الحرم النبوي الشريف ما يؤكد هذه المفاهيم العظيمة من خلال تذكير الناس بواجبات من ولي وظيفة عامة أو خاصة، من أجل تحقيق مصالح المجتمع وأن الإخلال بهذه الواجبات يتسبب في عوائق للتنمية والتقدم والتطوير.
ومن المؤكد أن الوظيفية العامة تمثل عقدا اجتماعيا، يقول الله تعالي في العقود، (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) الآية، وهذه العقود تتضمن واجبات لمن ولي وظيفة لتحقيق مصالح المجتمع وقد أشارت الخطبة إلى أن الواجب على كل موظف في الدولة أو القطاع الخاص أن يستشعر مسؤوليته أمام الله -جل وعلا- ويعلم أنه قد تحمل أمانة عظيمة أمام الله -سبحانه- ثم أمام ولي الأمر، ثم أمام المجتمع ككل، قال -صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

فقواعد الحوكمة المعروفة اليوم ‏تؤكد مبدأ المصلحة العامة، وأن تكون الأهداف في المؤسسات واضحة، وكذلك دور كل وظيفة في الهيكل التنظيمي، وعلى كل مسؤول أن يتحمل واجباته كاملة، سواء كان عضوا في مجلس الإدارة، أو رئيسا للمجلس أو رئيسا تنفيذيا، أو مديرا ماليا، الجميع عليهم مسؤوليات منصوص عليها نظاما، وعليهم فهم هذه المسؤوليات والعناية بها، كل ذلك من العقود التي أمر الله -جل وعلا- أن يتم الوفاء بها، وهذا يتضمن كما أشارت الخطبة إلى القيام بتنفيذ المشاريع والمرافق، التي تخدم المصالح العامة في البلاد بأحسن وجه وأكمل حال أمانة على كل مسؤول من أعلى سلطة إلى أدنى مستوى من المسؤولية، فعلى الجميع التزام الأمانة والتحلي بلباسها، والتخلي عن الغدر.
وهذه القواعد الإسلامية تضع قيم النزاهة والشفافية في أعلى المراتب، وأن يحاسب المسلم نفسه، وأنه ولو استطاع أن يتغلب على الرقابة البشرية، فإنه لن يستطيع أن يخفي فعلته عن الرقابة الإلهية.

ويدخل في هذه النصوص العظيمة تعاطي الرشوة والتهاون في التصدي لها، تلك الجريمة النكراء التي تجعل من الحق باطلا ومن الباطل حقا، فالإسلام يضع الفرد المسلم أمام هذا الفساد وبكل أنواعه مراقبا لنفسه.
وإذا كانت قواعد الحوكمة تعد الرقابة من أهم متطلبات العمل، سواء كانت الرقابة الداخلية في المؤسسات أو الرقابة من خلال المراجعة الداخلية أو المراقبة الخارجية، فإن الإسلام عد هذه القضايا جزءا لا يتجزأ من منظومة العمل للمصلحة العامة، وواجبا من الواجبات، وقد جاء في تاريخ الخلفاء الراشدين والدول الإسلامية، التي نشأت بعد ذلك كثير من المهام التي يمكن تصنيفها من نوع الرقابة الخارجية.
والواجب المتحتم والفرض اللازم على أجهزة الرقابة التي ولاها ولي الأمر هذه المسؤولية أن تتقي الله -عز وجل- وتبذل جهدها في مراقبة كل صغيرة وكبيرة، وتحاسب كل جهة مسؤولة عن كل مشروع محاسبة متناهية الدقة.

بقي الإشارة إلى أن كل هذه القضايا التي تتعلق بالحوكمة وقد تضمنت الخطبة ضرورة الالتزام بها، عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، وهو يرعى بها المصلحة العامة ويطيع فيها ولي الأمر، ويحمي مشاريع الدولة من التعثر والفساد فيتحقق الرخاء وتستدام النعم، بفضل الله.
وإذا كانت مبادئ الحوكمة الحديثة تنص صراحة على ضرورة مكافحة الفساد ومكافحة تعارض المصالح، أو تغليب المصلحة الشخصية، فقد نصت الآيات الكريمة على تحريم تقديم الأموال للموظف العام من أجل التحيز عند اتخاذ القرار والتحيز في الحق (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)، وعموم النص في قوله: (لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم) يدخل الأموال العامة في الحكم، فهي من أموال الناس، ومن ذلك تقديم أسعار مبالغ فيها، ومثال لذلك ما تطرحه وكالات وصالات السيارات من أسعار باهظة للجمهور.

وكذلك بعض السلبيات والثغرات التي تظهر في مشاريع شركات التطوير العقاري في موسم الأمطار.
كما وجهت الخطبة أيضا أصحاب الشركات التي تبوأت مقاليد العمل في المشاريع العامة، وأنهم مسؤولون أمام الله عن كل تلك المشاريع والأعمال، وعد من أشد المحرمات المبالغة في تقديم الأسعار الباهظة التي تقدمها الشركات في بيع مشاريعها ومنتجاتها أو في عروضها للمناقصات المبالغ فيها بشكل كبير وبأرقام كبيرة.

إنشرها