العقارات .. تصحيح بضغوط الفائدة

هناك شبه إجماع على أن سوق العقارات في بريطانيا ستشهد انخفاضا في الأسعار خلال العام الجاري. وهذا يعود أساسا إلى التطورات الاقتصادية العامة في البلاد، ولا سيما تلك المرتبطة بالموجة التضخمية الكبيرة، واضطرار بنك إنجلترا المركزي إلى رفع دوري لسعر الفائدة العامة، من أجل مواجهة تضخم بلغ في بريطانيا أخيرا الخانة العشرية، فضلا عن المشكلات الاقتصادية المستمرة والمتضخمة، التي جلبتها حكومة ليز تراس الصيف الماضي، ما اضطر الأخيرة إلى الاستقالة بعد 44 يوما فقط من توليها المنصب.
ولا شك في أن أسعار العقارات في بريطانيا تعد من قبل مختصين مرتفعة عن قيمتها الحقيقية، والسبب يعود إلى قلة المعروض منها، بعد أن توقفت مجموعة ضخمة من المشاريع العمرانية، وتأخر بعضها في الأعوام العشرة الماضية.
يصعب النظر إلى حراك العقارات كطفرة، لأنه واصل الارتفاع على مدى عقود طويلة، على مستوى كل أنواع العقارات، بما فيها المحال التجارية والمكاتب وغيرها، لكن ثبت بالتجربة، أن أسعار العقارات في المملكة المتحدة تحتاج إلى الأزمة كي نصف الحالة بأنها عملية تصحيح. حدث ذلك في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، والأزمات الكبرى التي سبقتها، بما فيها اضطرار بريطانيا في مطلع التسعينيات إلى الخروج من آلية الصرف الأوروبية بعد أن شهد الجنيه الاسترليني انخفاضا رهيبا هز أركان حكومة جون ميجور آنذاك. بمعنى آخر هناك اتفاق على أن أسعار عقارات بريطانيا تبقى أعلى من قيمتها فيما لو قورنت بمثيلاتها على الساحة الأوروبية مثلا.
الآن هناك أزمة حقيقية يعترف بها المسؤولون في حكومة ريشي سوناك، ناجمة بالطبع عن الارتفاع الكبير للفائدة، خصوصا أن الأغلبية العظمى من التمويلات العقارية تتم في البلاد عن طريق الرهن، أي القروض طويلة الأمد. فمعدل الفائدة حاليا بلغ 3 في المائة، وهو الأعلى منذ 1989، والمرجح أنه سيرتفع في المراجعة الدورية المقبلة لبنك إنجلترا المركزي، ما يعني أن الضغوط على أسعار العقارات ستتواصل، ما يؤدي إلى تراجعها على مدى الأشهر المقبلة. وهذا ينطبق حتى على العقارات الفاخرة التي تستقطب عادة المستثمرين والممولين الأجانب. ففي العام الماضي، تم حجز أغلبية هذه المساكن التي تعود إلى أصحابها الذين يحملون الجنسية الروسية، في حين أسهمت الأجواء العدائية "ولو سياسيا" بين المملكة المتحدة والصين، في ابتعاد عدد من المستثمرين الصينيين عن السوق.
الأسعار لم تنخفض تماما على الساحة العقارية، وإنما تراجع نموها في الفترة الماضية، ومن المتوقع أن يواصل التراجع هذا العام، استنادا إلى سياسة التشديد المالي التي يتبعها المشرعون في لندن. لكن النقطة الأهم أنها "وفق الأغلبية المختصين" ستدخل نفق التصحيح عاجلا أم آجلا، الأمر الذي يعني أنها ستجلب مزيدا من الأعباء على كاهل أولئك الذين اشتروا عقاراتهم في وقت الذروة السعرية، فضلا عن عجز نسبة كبيرة من مالكي العقارات عبر الرهن، عن السداد لارتفاع أقساطهم الشهرية. وبلغت الزيادة في المتوسط على هذه الأقساط 30 في المائة. بالطبع سيولد هذا العجز وفرة من العقارات التي ستعود ملكيتها إلى المؤسسات المقرضة، إلا أن الطلب يتراجع تحت ضغوط التمويل، كما هو واضح حاليا، فأغلب مكاتب العقارات تنصح حاليا بالشراء نقدا، أي دون تمويل، لتكون المخاطر أقل في المستقبل القريب.
وفي كل الأحوال، دخلت العقارات البريطانية مرحلة جديدة وصعبة في آن معا، ويتطلب الأمر مدة لن تكون قصيرة كي تعود إلى ما كانت عليه قبل 2020، علما بأن التغييرات السياسية في البلاد واردة ومحتملة خلال أقل من عامين، ما يجعل المشهد أكثر ضبابية إلى أن تتضح الصورة النهائية للسياسة المالية والاقتصادية العامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي