عقارات بريطانيا .. القلق يتعاظم
لا يمكن النظر إلى وضعية الاقتصاد البريطاني بمعزل عن حراك البلاد على الصعيد العقاري. فهذا القطاع يمثل محورا استثماريا محليا وأجنبيا، كما أنه يشكل مؤشرا سلبيا أو إيجابيا للأداء الاقتصادي العام. وكغيره من القطاعات الأخرى تعرضت سوق العقارات في المملكة المتحدة إلى تحديات متلاحقة وعميقة، في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة أن تخفف ما أمكن لها من الضغوط عن مالكي العقارات ولا سيما السكنية منها، الذين يواجهون واحدة من أسوأ الأزمات المعيشية عبر ارتفاع لا يتوقف لمعدلات التضخم، بحيث بلغت أخيرا الخانة العشرية. ومؤشرات العقارات في هذا البلد، تعد الأهم على الإطلاق مقارنة بغيرها على مستوى العالم، لأن أعداد المستثمرين الأجانب فيها هي الأكبر، وتشهد تزايدا كل عام، في ظل تسهيلات جاذبة ومشجعة.
وعلى الرغم من أن أزمة العقارات ليست حكرا على بريطانيا، إلا أنها تعمقت أكثر بما يمكن تسميته بـ "فعل فاعل". ففي الصيف الماضي، قدمت حكومة ليز تراس، التي لم تجلس في مكاتبها أكثر من 44 يوما، ميزانية عامة مصغرة كبداية لفترة حكمها، ضربت الاقتصاد الوطني حقا بما فيه سوق العقارات. ماذا فعلت؟ ألغت الضرائب على الشركات، في ظل عجز لم تعلن وقتها كيف يمكن أن تسده، لكنها تعلم والجميع معها، أنها ستضطر إلى الاستدانة، الأمر الذي أوصل الجنيه الاسترليني في الربع الثالث من العام الماضي إلى أدنى مستوى له في التاريخ. أمام هذه الأزمة المصطنعة، تدخل بنك إنجلترا المركزي إلى شراء السندات، وأجبرت بنوك التجزئة على رفع الفائدة على قروضها، وفي مقدمتها بالطبع القروض السكنية التي تستحوذ على النصيب الأكبر من عملياتها.
أمام هذا الوضع، ألغت مؤسسات التسليف والبنوك عروضها المقدمة على أساس الفائدة الثابتة لفترات محددة، ما وضع عشرات الآلاف من العقارات في دائرة الخطر، لأن مالكيها لا يستطيعون حقا الالتزام بتسديد قروضهم الشهرية. وزادت أيضا حدة الضغوط مع اعتماد بنك إنجلترا "كغيره من البنوك المركزية الأخرى" على سياسة رفع الفائدة لمواجهة الموجة التضخمية العاتية التي لا تزال تمثل الهم الأكبر للمشرعين في كل مكان تقريبا. فمنذ الشهر الأخير من 2021 رفع البنك سعر الإقراض القياسي تسع مرات ليصل إلى 3.5 في المائة، وهو المستوى الأعلى منذ 2008، العام الذي انفجرت فيه الأزمة الاقتصادية العالمية. ووتيرة رفع الفائدة ستتواصل طوال هذا العام على الأقل، خصوصا بعد أن فقدت الحكومة القدرة على محاصرة التضخم، في وقت شهدت فيه بريطانيا تغيير ثلاث رؤساء وزارة، وخمسة وزراء خزانة في أقل من ستة أشهر!
في ظل هذا المشهد، من المرجح جدا أن تنخفض أسعار العقارات في المملكة المتحدة هذا العام والعام المقبل أيضا، بحيث تصل المستويات إلى ما كانت عليه قبل 2011. وهذا يعود أساسا إلى تراجع الطلب خصوصا في المناطق خارج العاصمة لندن، وإلى تخارجات إجبارية لمالكي العقارات عن طريق الرهن لعجزهم عن السداد، في حين لا أحد يعرف تماما أين ستتوقف معدلات الفائدة. بعض التوقعات الآتية من مؤسسات الرهن العقارية العريقة تتحدث عن تراجع الأسعار 10 في المائة. وفي الصيف الماضي تراجعت هذه الأسعار 5 في المائة تقريبا في مناطق مختلفة من البلاد. والمشكلة تكمن أيضا في أنه حتى في ظل زيادة في المعروض، لن يكون هناك ارتفاع في الطلب للأسباب المذكورة.
في النصف الأول من العام الماضي شهدت سوق العقارات انتعاشا طفيفا، لارتفاع عدد المشترين في المناطق خارج لندن الذين قرروا مزاولة أعمالهم من المنازل. لكن هذا الارتفاع لم يدم طويلا مع ضغوط الفائدة والاضطرابات الاقتصادية التي أحدثتها حكومة ليز تراس، التي لا يمكن أن تنتهي آثارها قبل نهاية العقد الحالي. وإذا كانت لندن تتميز دائما بمستويات طلب عالية على العقارات، إلا أنها ارتفعت في كانون الأول (ديسمبر) الماضي بمعدل 2.9 في المائة، لكن بانخفاض بلغ 5 في المائة. وعلى الرغم من هذه التطورات المقلقة، إلا أن مستويات الأسعار في العاصمة البريطانية تبقى مرتفعة مقارنة بقيمتها الحقيقية. بمعنى آخر، ربما أتت الأزمة الحالية بأداة لتصحيح الأسعار في هذا الوقت بالذات. علما بأن الحديث لا يشمل العقارات الفاخرة التي عادة لا تخضع إلى المعايير الكلية للسوق المحلية.
ستواجه سوق العقارات في المملكة المتحدة مزيدا من الضغوط في الأشهر القليلة المقبلة، خصوصا إذا ما استمرت سياسة رفع الفائدة التي أضافت أعباء على كاهل أصحاب الرهون العقارية وصلت إلى 30 في المائة، ما يبرر ارتفاع المعروض من المساكن في أعقاب انتهاء فترة أعياد الميلاد. ولا شك في أن هذه الأزمة، ترفع أيضا من حدة الضغوط على الحكومة التي تعاني عجزا ماليا كبيرا، ومن ديون تجاوزت مستوى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فضلا عن عدم وضوح بشأن الاستقرار الحكومي، ووجود ما يمكن وصفه بـ "الحرب الأهلية" ضمن نطاق حزب المحافظين الحاكم الذي استمر في السلطة برئيس وزراء دون انتخابات عامة، بل حتى من غير انتخابات عبر أعضاء الحزب نفسه.