استثمارات مرتفعة المخاطر .. والمكاسب
يهدف المستثمر الجريء من عملية الاستثمار إلى بناء أسس وركائز يمكن للشركة الناشئة من خلالها أن تعزز وتزيد من نموها وتوسع عملياتها إلى أكبر نطاق ممكن. ويكمن هدف الاستثمارات الجريئة في تعزيز قيمة الشركة والتخارج منها بعد عدة أعوام من خلال البيع أو الاندماج أو الطرح في الأسواق المالية. ويسعى من خلالها المستثمر إلى تحقيق عائدات عالية تصل إلى عشرة أضعاف المبلغ الاستثماري الأساسي.
وتعتمد شبكة الشركات الناشئة ورواد الأعمال على الاستثمارات الجريئة كمصدر تمويل مهم، إذ تلعب صناديق الاستثمار الجريء دورا أساسيا في تفعيل الأنشطة الريادية في شتى المجالات، الأمر الذي يجعلها مساهما محوريا في دفع عجلة النمو للشركات الناشئة، ولأن الاستثمارات الجريئة أحد الموارد التمويلية القليلة المتاحة للشركات الناشئة، يصبح فهم طريقة عمل صناديق الاستثمار من حيث كيفية صنع القرارات الاستثمارية، ومدة العملية الاستثمارية وشروطها وغير ذلك من قضايا مهمة أمرا بالغ الأهمية لكل رائد أعمال ومؤسس شركة ناشئة. وفي حال نجاح صفقات ومشاريع رأس المال الجريء، فإنه يعد مؤشرا على الاستقرار الاقتصادي ونمو أدواته.
وهنا يجب أن نشير إلى أن رأس المال الجريء يعد من الأهمية بمكان في دعم النمو الاقتصادي، فهو يسهم بقدر كبير في تشجيع الابتكار من خلال تمويل الشركات الناشئة الجديدة، والتقنيات المتقدمة الحديثة، خاصة أن هذه الشركات والمنتجات تفتقد أسواقا واضحة المعالم، وهذا يفقد المستثمر كما كبيرا من المعلومات التي تسهم في رسم الاتجاهات المستقبلية للطلب وتسهم أيضا في دراسة جدوى هذه المشاريع ومدد الاسترداد، وهذه الأخيرة من أهم المعلومات التي يتم بناء قرار الاستثمار الجريء عليها، حيث إن المستثمر في هذا القطاع يعمل على ضخ أموال كبيرة في دعم هذه التقنيات والمنتجات وبناء أسواق فاعلة وطلب قوي، ما يحقق قفزات في سعر سهم هذه الشركات ويمكن المستثمر الجريء من بيع الحصص في اكتتابات عامة أو من خلال التخارج المخطط له، فالاستثمار الجريء يستهدف الشركات الناشئة والصغيرة، التي يعتقد أن لديها إمكانات نمو استثنائية ولديها القدرة على مواصلة هذا النمو على المدى الطويل، ولذلك فإن تراجع المؤشرات الاقتصادية لهذا النوع من الاستثمار يعني فقدان الاقتصاد جزءا كبيرا من فرص النمو، وفرص الابتكار، وبذلك فإن الركود الاقتصادي قد يكون أطول مما يجب، خاصة أن هذه الاستثمارات تسهم في تحمل جزء كبير من تكلفة إنتاج فرص العمل الجديدة، وهنا نقرأ أن عدد الاكتتابات العامة العالمية قد تراجع 31 في المائة في 2022 إلى 716 اكتتابا، كما تأثرت صفقات الاندماج والاستحواذ، لتتراجع 8 في المائة إلى 10037 صفقة، وهذا مؤشر إضافي على أن تراجع النمو في الاستثمار الجريء ينعكس سلبا على أداء الأسواق المالية.
في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد العالمي مشكلات ومعوقات كثيرة، فإن الأرقام تشير إلى أن الاقتصاد السعودي يعيش فترة ازدهار غير مسبوقة، فقد نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للسعودية 8.8 في المائة في الربع الثالث 2022، مقارنة بالفترة نفسها من 2021، وحقق القطاع النفطي نموا بـ14.2 في المائة، واستمر القطاع غير النفطي في نموه القوي والمتوازن بـ6 في المائة، وبالمقارنة فقد تراجع الاقتصاد العالمي في الربع الثالث من 6 في المائة 2021 إلى 3.2 في المائة 2022، ومن المتوقع أن يواصل تراجعه في 2023 إلى 2.7 في المائة. وغاب التفاؤل في كل تصريحات المؤسسات الدولية مع توارد التقارير الاقتصادية بشأن التضخم والركود، لكن هذا التشاؤم في الاقتصاد العالمي ليس بلا أدلة واضحة، فقد سجلت تمويلات رأس المال الجريء العالمية تراجعا كبيرا بلغ 35 في المائة خلال العام الماضي 2022، حيث انخفض من سقف 638.4 مليار دولار في 2021، ليصل إلى 415.1 مليار دولار بنهاية 2022، وهذا التراجع ليس في قيمة الصفقات وأرقام التمويل، بل تعدى ذلك إلى عدد الصفقات نفسها، حيث سجلت الصفقات انخفاضا يعادل 3.69 في المائة، وهذا يقدم دليلا إضافيا على حجم القلق الذي يعم الأسواق المالية العالمية، وتراجع الرغبة في تقبل المخاطر. وفي مقابل هذا القلق من المخاطر العالمية، فإن الاقتصاد السعودي يظهر رغبة أكبر فيها، ففي تقرير نشرته "الاقتصادية" عن الاستثمار الجريء في السعودية تبين أنه حقق نموا قويا جدا بـ72 في المائة في 2022، مقارنة بـ2021، وأن قيمة الاستثمارات بلغت 3.7 مليار ريال "987 مليون دولار"، وذلك في شركات ناشئة. وهذا يؤكد أن الحالة الاقتصادية السعودية الراهنة لم تتأثر بما يحدث في الأسواق العالمية من ركود ومخاوف، ولا شك أن هذا يمثل علامة فارقة في الاقتصاد الوطني، الذي كان يستجيب لمثل هذه التقلبات بصورة آلية.
ورغم هذه الأهمية الكبيرة للاستثمار الجريء ودوره الاقتصادي الواضح إلا أن الاقتصاد السعودي لم يشهد حراكا منظما لهذه الأدوات الاقتصادية المهمة إلا من بعد الجهود الكبيرة التي تمت بشأن إعادة هيكلة صندوق الاستثمارات العامة، وإعادة رسم دوره الجديد والمهم في الاقتصاد الوطني، فقد تم تأسيس الشركة "السعودية للاستثمار الجريء" في 2018 وبرأسمال 1.5 مليار دولار، وقد دعمت الشركة منذ تأسيسها 31 صندوقا استثماريا استثمرت في 525 شركة ناشئة ومنشأة صغيرة ومتوسطة، وفقا لتقارير دولية، فقد كان 2021 قياسيا للاستثمار الجريء، ومع ذلك فإن 2022 قدم رقما قياسيا في قيمة الاستثمارات الجريئة المنفذة، حيث تمكنت السعودية من الحفاظ على مكانتها كثاني أكبر سوق من حيث حجم الاستثمار الجريء بين دول منطقة الشرق الأوسط، خلال 2022، مستحوذة على 31 في المائة من إجمالي المبالغ المستثمرة، وارتفع عدد المستثمرين 30 في المائة، مقارنة بـ2021، فيما سجلت المملكة ضعف عدد صفقات التخارج للشركات الناشئة في 2022 مقارنة بالعام الماضي بإجمالي عشر صفقات تخارج. هذه الأرقام تقدم صورة مشرقة للاقتصاد السعودي، ذلك أن مثل هذه الاستثمارات لا تنشأ وتنمو إلا في بيئات اقتصادية واعدة ومواتية.
من اللافت للنظر أن شركات تمويل الصحة الرقمية والتكنولوجيا المالية "فينتيك" هي من أكثر القطاعات، التي تحتل اهتماما من قبل المستثمرين في رأس المال الجريء، وفي المملكة تظهر شركات التعليم الإلكترونية، والتكنولوجيا المالية "فينتيك"، إدارة الطلبات للمطاعم والأغذية في طليعة اهتمام المستثمرين.
وعموما ولكون الاستثمار الجريء شكلا استثماريا عالي المخاطرة، يصحب الاتفاقية الاستثمارية عادة عدد من الشروط والتفضيلات التي تضمن للمستثمر درجة من الحماية في حال فشل العملية الاستثمارية، لكون ذلك أمرا واردا ومتوقعا. يحصل المستثمر مقابل استثماره على حصة من الأسهم الممتازة في الشركة، مقارنة ببقية المساهمين. وهنالك نماذج متنوعة ومنتشرة لهذا النوع من الاستثمارات في كثير من الدول.