Author

القادة الأوروبيون ومصطلح «الخطر الوجودي»

|
أستاذ جامعي ـ السويد

يأخذ مصطلح "الخطر الوجودي" حيزا في خطابات الزعماء الأوروبيين، وهنا أعني زعماء الدول الأوروبية الغربية التي إما هي أعضاء في الحلف الأطلسي وإما الاتحاد الأوروبي.
وإن الطريق لمعرفة مفهوم ما يحتم علينا تعريفه. و"الخطر الوجودي" existential threat كمصطلح له معان عديدة، وأرى أن إلقاء ضوء ولو على مستوى بصيص قد يساعد على استيعاب ما يصبو إليه القادة الأوروبيون عند ترديده.
أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع أو قراءة المصطلح هو أن استمرار الوجود على ما هو عليه صار أمام خطر محدق. بمعنى آخر، أن هناك خطرا قائما على الناس، أو المؤسسة، أو الدولة وبقائها. والمصطلح استعارة من اللغة الإنجليزية لأنه ترجمة حرفية لـ existential threat. مفردة "الخطر" واضحة، بيد أن مفردة "الوجود" لها علاقة بحركة فلسفية نشأت في نهاية القرن الـ19، وصاحبها سورين كيركجور.
رغم أن كيركجور لم يستخدم المصطلح الذي جرى تداوله في القرن الـ20، إلا أنه وضع أسس "الوجودية" كفلسفة، التي تعنى بمسائل مصيرية مثل إن كان هناك أي معنى للحياة أو لماذا نحن موجودون في هذه الدنيا. استنادا إلى هذا الموجز المبسط، في إمكاننا فهم ماذا يقصد الباحثون والعلماء والفلاسفة حتى الساسة والإعلاميون عند ترديدهم لهذا الشعار.
فأي "خطر وجودي" نتحدث عنه، الإشارة هي أن المستقبل مظلم، وأن المقبل من الأيام سيحول الحال الذي نحن فيه إلى ما لا نحمد عقباه. وأجريت بحثا في "جوجل" بشقيه المختص في المعلومات العامة والمختص في المعرفة الأكاديمية.
وفي الحقيقة، هالني ما لاحظته، حيث إن المصطلح لم يرد في خلد الساسة في أوروبا، وبالكاد تطرق إليه الباحثون في إشارتهم إلى مستقبل أوروبا حتى أن نشبت الحرب في أوكرانيا، وإذا بهم يرددونه كثيرا ويأخذ حيزا واسعا في خطاباتهم، وفيما تسطره وسائل الإعلام من مقالات رأي لكبار الكتاب والمحررين.
لماذا الخشية على مستقبل أوروبا الغربية؟ ولماذا كل هذا الخوف مما تخبئه الأيام إلى درجة أن الوجود أصبح على شفا الزوال، هذا حسب أقوال القادة والإعلام والباحثين والعلماء؟
تحدثنا كثيرا في هذا المنبر عن خطورة الوضع في أوروبا، لكن مهما قلنا، فإننا لن نفلح في وصفه بشكل دقيق، لأن الأمور ربما أعقد وأخطر من الذي يمكن للإنسان تصوره أو تخيله.
كانت الدول الأوروبية الغربية تعيش في بحبوحة غير مسبوقة صار فيها الرخاء في شتى المضامير من المسلمات، التي من غير الممكن المس بها.
الحرب في أوكرانيا غيرت ليس التوازن الدولي والتحالفات على مستوى العالم، بل كشفت أن هناك خللا تركيبيا جليا في البنيان والأسس التي تقف عليها هذه الدول.
كانت الدول الأوروبية الغربية تستهزئ بروسيا، وبعضها لا يزال، إلا أن مسألة "الخطر الوجودي" تكتنفها حاليا وصارت تفكر فيها بجدية وواقعية.
ظهر أن هذه الدول، ومن ضمنها ما نطلق عليه قوى عظمى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ليس في إمكانها تقرير حتى مصيرها وحدها، وليس مصير أوكرانيا.
وإن أردنا معرفة لماذا وصل الأوروبيون إلى حال مثل هذه، لنحاول إثارة سؤال حول ماذا سيكون عليه الواقع لو لم تتدخل الولايات المتحدة بثقليها المالي والعسكري في الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟
عدا ما يصيب هذه الدول من تبعات نتيجة هذه الحرب من حيث شح الطاقة وارتفاع الأسعار وزيادة كبيرة في أسعار الفائدة، ترى هذه الدول أنها عاجزة عن مجاراة روسيا رغم أن مجمل اقتصاد الدول الثلاث التي ذكرناها فقط يبلغ أضعاف مجمل الاقتصاد الروسي. "الخطر الوجودي" يقع أيضا عندما يصبح مصير الأشخاص والمجتمعات والدول في يد شخص أو مجتمع أو دولة أخرى. وإن كانت أوروبا الغربية جزءا من أو تدور في الفلك الأمريكي، فالحرب جعلتها تابعة تقريبا في كل شيء على الآخر، وهو الولايات المتحدة.
وصار مصير الحرب ليس بيد أوكرانيا ولا في يد حلفائها من الأوروبيين، بل في يد روسيا من جهة، وأمريكا من جهة أخرى، وأخذت الدول الأوروبية الغربية تفقد حتى زمام المبادرة.
يعلمنا التاريخ أن من النادر إن حصلت حرب وساحتها أوروبا إلا وكانت "خطرا وجوديا" على القارة، بمعنى أن الحرب ألغت عالما قائما في القارة وأتت بعالم جديد.
هذه الحرب لا أظن أنها ستضع أوزارها قبل أن يستتب واقع جديد في القارة، وهو سيكون فقط نتيجة واحدة بين ربما عشرات المآلات التي سيفرزها الخطر الوجودي القائم فيها.
وهذا "الخطر الوجودي" لن تقتصر نتائجه على القارة، بل قد تشمل مساحات شاسعة من خريطة العالم.

إنشرها