المدن الاقتصادية بعد الجائحة «3»
في ظل تراجع عدد التعيينات الجديدة خلال فترة العمل من المنزل أثناء الجائحة، وعلى الرغم من أن "مايكروسوفت" قد خلصت إلى أن إنتاجية مبرمجيها لم تتأثر حينما انتقلوا إلى العمل عن بعد، انخفض عدد الإعلانات الجديدة عن وظائف المبرمجين على موقع التوظيف الإلكتروني بأكثر من 40 في المائة 2020. ويتفق ذلك مع وجهة النظر التي تفيد بأن أصحاب العمل لا يعتقدون أن الموظفين الجدد سيكون بمقدورهم تعلم ثقافة العمل في الشركة دون التفاعل مع موظفين آخرين.
وأخيرا، أشار باحثون تابعون لشركة مايكروسوفت إلى أن "العمل في الشركة عن بعد قد أدى إلى زيادة الجمود في شبكة التعاون بين العاملين وزيادة الانعزال، مع تراجع معدلات التواصل المتزامن وزيادة معدلات التواصل غير المتزامن"، ما "قد يجعل الأمر أكثر صعوبة على الموظفين في اكتساب معلومات جديدة وتقاسمها عبر الشبكة". وتوثق مجموعة من الأدلة النتائج الكارثية للتعلم عن بعد بالنسبة إلى الأطفال. وهذا يعد السبب الأول.
أما السبب الثاني، فهو أن ازدهار المدن يعزى إلى كونها مركزا للاستهلاك والإنتاج على حد سواء. فالتجمعات الحضرية تنشأ فيها مطاعم أفضل ومحاسبون أكثر مهارة. وتتيح المدن لسكانها إمكانية تقاسم التكاليف الثابتة لزيارة المتاحف أو حضور الحفلات الموسيقية. وبين سبعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الـ21 ارتفعت الأسعار في المناطق الحضرية بوتيرة أسرع كثيرا من وتيرة ارتفاع الأجور هناك، وهو ما يتفق مع الرأي القائل بزيادة إقبال السكان على العيش في المدن بفضل وسائل الراحة التي توفرها. وبينما قرر بعض كبار السن عدم العودة إلى العمل في المكاتب مجددا، أبدى كثير من الشباب تعطشا شديدا للعودة إلى التفاعلات الاجتماعية المباشرة. فالعمل يمكن أن يكون مصدرا للدخل والمتعة أيضا.
والسبب الثالث أن الأسعار ستشهد تغيرات لضمان عدم فراغ المكاتب للأبد على الأقل في المدن التي يوجد فيها طلب معقول على المساحات المكتبية. فقبل الجائحة، كان هناك نقص شديد في المعروض من العقارات التجارية في مدن مثل، نيويورك وسان فرانسيسكو ولندن، واضطر عدد كبير من الشركات الأصغر حجما أو المؤسسة حديثا أو الأقل ربحية إلى الخروج من هذه الأسواق. وسيعمد مالكو المكاتب الشاغرة إلى خفض الإيجارات، وبالتالي سيجدون الشركات التي ترغب في الحصول على هذه المكاتب. وبالطبع ففي بعض الأسواق ذات الأسعار المنخفضة، التي كانت على حافة الهاوية قبل جائحة كوفيدـ 19، قد يتراجع الطلب إلى درجة تجعل الملاك يفضلون التخلص من ممتلكاتهم العقارية بدلا من تأجيرها بأسعار زهيدة. ويمكن تحويل هذه المباني إلى مساكن أو تركها خالية في أسوأ الظروف.
والسبب الرابع أن العالم لا يزال يعاني في معظمه الفقر، والفقراء يسهل أن تتغلب الإغراءات الاقتصادية للزحف العمراني على مخاوفهم إزاء تكاليف الرعاية الصحية، فبيانات الانتقالات المتاحة عبر شركة جوجل تشير إلى ارتفاع كبير في وتيرة الذهاب إلى أماكن العمل في الوقت الحالي مقارنة بما كانت عليه قبل الجائحة في مدن مثل، ساو باولو في البرازيل ولاغوس في نيجيريا. علاوة على ذلك، فإن العاملين المهرة في المدن الأكثر فقرا سيحققون عدة فوائد، نظرا إلى أن الاتصالات المرئية يسرت التواصل مع العالم الغني. ورغم ذلك، فقد يؤدي تباطؤ وتيرة رحلات العمل إلى تراجع مستوى الاستثمار الأجنبي المباشر في مدن العالم النامي، فقبل الجائحة كانت الرحلات الجوية بين المدن مؤشرا مهما على العلاقات المالية.