المدن الاقتصادية بعد الجائحة «2»
صاغت التكنولوجيا تجربة العالم الغني مع كوفيد ـ 19، حيث أتاحت لكثير منا إمكانية الانعزال عن المجتمع دون انقطاع الدخل. ففي أيار (مايو) 2020، عندما كانت ظاهرة العمل عن بعد في أوجها، كان ثلثا الشعب الأمريكي الحاصلين على درجات عليا يعملون من المنزل. وتكشف بيانات الانتقالات المتاحة عبر جوجل عن انخفاض وتيرة الذهاب إلى أماكن العمل في الولايات المتحدة بـ28 في المائة في آب (أغسطس) 2022 مقارنة بفترة ما قبل الجائحة وانخفضت الوتيرة في مانهاتن ولندن بنسبة تربو على 45 في المائة.
ويثير هذا التحول إلى نظام العمل عن بعد ونظام العمل الهجين شبح خلو المكاتب للأبد وتراجع الحركة في المدن. فقلة عدد العمال تؤدي إلى انخفاض الطلب على الخدمات المحلية، ما يفضي إلى البطالة وانخفاض معدلات الإنفاق على الخدمات العامة، الأمر الذي يتسبب في هروب مزيد من العمالة. ومن المؤكد أن الخطر يهدد فرادى المدن، ولا سيما إذا سمحت للجريمة أن تفتت جودة الحياة الحضرية. فالجائحة ولدت إحساسا بالحرية الجغرافية لم نعهده منذ فترة طويلة.
لكن هناك أربعة أسباب على الأقل تجعلنا نعتقد أن المدن عموما في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، ستنجو من آثار الجائحة، بل وستزدهر أيضا أولا، فإن فرضية التكنولوجيا التي ستجعل التواصل المباشر دربا من الماضي هي فرضية قديمة فقدت مصداقيتها أكثر من مرة. فقد تنبأ الصحافي الراحل ألفين توفلر في 1980 بأن المكاتب ستصبح خالية من موظفيها، غير أن المشكلة في الجزء الأكبر من الـ40 عاما الماضية، كانت قلة عدد المكاتب وليس كثرتها، وللتغير التكنولوجي مزايا أكبر كثيرا من مجرد إمكانية التواصل عن بعد، فهو يزيد إلى حد كبير من فوائد عملية التعلم التي يعززها التقارب مع أشخاص آخرين.
وتوضح بيانات الإنتاجية الفوائد الديناميكية للتجمعات البشرية. فقد أشار نيكولاس بلوم والمؤلفون المشاركون في دراسة Nicholas Bloom (2015) إلى أنه عندما طلب من موظفي مراكز الاتصالات الصينية العمل من منازلهم بشكل عشوائي، تحسنت إنتاجيتهم كثيرا قياسا بعدد المكالمات في الساعة. غير أن دراسة حديثة (2020) Natalia Emanuel and Emma Harrington شملت العاملين في مراكز الاتصال في الولايات المتحدة، أثبتت عدم حدوث أي تغيير جوهري في الإنتاجية نتيجة العمل من المنزل. لكن الدراستين أثبتتا أن فرص العاملين في الترقي تراجعت بأكثر من 50 في المائة عندما عملوا عن بعد. فإذا كان موظفو مراكز الاتصال يعملون بمعزل عن بعضهم بعضا، كيف سيحصلون على النصائح التي تمكنهم من أداء عملهم بفاعلية؟ وكيف لمديريهم أن يتأكدوا من مدى قدرتهم على التعامل مع الحالات الأكثر تعقيدا؟ في السياق نفسه، وثقت دراسة José Morales-Arilla and Carlos Daboin Contreras (2021) تراجع عدد التعيينات الجديدة خلال فترة العمل من المنزل في ظل جائحة كوفيد ـ 19... يتبع.