الاقتصادات والسيناريوهات الأكثر احتمالا
يبدو عام 2023 في تقارير المؤسسات الدولية كأنه بلا ملامح، خاصة أنه مجرد صورة انعكست عليها كل أحداث عام 2022، ذلك العام الذي وصفه تقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا بعام "متعدد الأزمات" بحسب تعبير المؤرخ آدم توز، الذي تحدث عن صدمات متباينة تتفاعل معا لتجعل الوضع العام في غاية الصعوبة.
لقد ولى عام 2022 تاركا العالم وسط خليط متعدد ومعقد ومتشابك من الأزمات، فلا نهاية قريبة لانتشار فيروس كورونا الأكثر إنهاكا للاقتصاد العالمي، ولا حل قريب للأزمة الروسية - الأوكرانية، بينما سلاسل الإمداد تعاني الاختناقات مع تزايد التعنت بشأن الإغلاقات الاحترازية في الصين، وسقف أسعار النفط الروسي، ورفع أسعار الفائدة الأمريكية وأرقام التضخم الجاثمة على بنية الاقتصاد العالمي.
كل هذه الظروف جعلت كريستالينا جورجييفا رئيسة صندوق النقد الدولي، تصف عام 2023 بأنه صعب على معظم الاقتصاد العالمي، في الوقت الذي تعاني فيه معظم المحركات الرئيسة للنمو العالمي، وهي الولايات المتحدة وأوروبا والصين، ضعف نشاطها الاقتصادي.
لكن تقريرا أعدته "الاقتصادية" من أجل تحرير كلمة "معظم" التي وردت في تصريحات رئيسة صندوق النقد الدولي يقدم تفاصيل أكثر تباينا في الاقتصاد العالمي لعام 2023.
فبينما تؤكد رئيسة الصندوق الدولي أن الاقتصادات الرئيسة الثلاثة: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، تتباطأ جميعها في وقت واحد، فإن استشاريي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يشيرون إلى أن السيناريو الأكثر احتمالا ليس ركودا عالميا، إنما سيكون النمو العالمي منخفضا لكنه في الوقت ذاته إيجابي.
وفي هذا الاتجاه فإن الباحثين الاقتصاديين يؤكدون أن المؤسسات الدولية تحاول تصدير صورة كئيبة للاقتصاد الدولي في 2023، وبالمقابل يرى باحثون آخرون أنه لا تزال سوق العمل الدولية قوية بشكل ملحوظ بنهاية 2022، ومن المحتمل أن تضعف خلال 2023، لكن سيكون الضعف بطيئا ومعتدلا - كما أن معدل البطالة العالمي سيبدو في أغلب الأحوال صحيا في العام الجديد وسيراوح بين 4 و5 في المائة.
من الواضح أن هذا التباين بشأن عام 2023 تباين حول مدى امتداد آثار الأحداث المعقدة التي نشأت عام 2022، كما أن هذا التباين يجد تفسيره وفقا لاستعداد كل دولة ومواردها لمواجهة الواقع الاقتصادي الراهن سواء بشأن التضخم أو أسعار الفائدة أو أزمات سلاسل الإمداد.
سيتباين الوضع الاقتصادي الأوروبي بين مستويات نمو متدنية في ألمانيا وفرنسا وانكماش اقتصادي في المملكة المتحدة، أما الولايات المتحدة فإن الأمر يشبه المشهد الأوروبي بشقيه النمو المنخفض في بعض الأوقات، وربما الركود في أوقات أخرى، في منطقة الخليج وأمريكا اللاتينية والصين، فإن ارتفاع أسعار الطاقة يعني تحقيق عوائد مالية ضخمة وميزانيات ذات فوائض مالية، ويعزز هذا الوضع القدرة الاستثمارية للحكومات الخليجية والمستثمرين المحليين على حد سواء، كما أن ارتفاع معدلات التضخم يصب إلى حد كبير في مصلحة عديد من دول أمريكا اللاتينية، حيث يتم تصدير المواد الخام، حتى في الوقت الذي سيشهد فيه جزء كبير من العالم انكماشا اقتصاديا ستحقق أمريكا اللاتينية توسعا 1.2 في المائة، أما الصين فالأمر مرهون بمدى تمسكها بسياسة "صفر كوفيد".
تبقى قضية مهمة يجب تداركها في هذا التحليل، فرغم أن التوقعات والتحليلات تناقش حالة الاقتصاد العالمي عام 2023 على أنه امتداد للحالة الراهنة، يجب ألا يتم إهمال ما قد يحمله العام الجديد من مفاجآت، فارتفاع الأسعار يؤثر سلبيا في مستويات المعيشة، ما يضر بالفئات ذات الدخل المنخفض والفئات الضعيفة أكثر من غيرها، كما أن التشديد المستمر في الأوضاع المالية يزيد الضغط على الحكومات المثقلة بالديون، ويؤثر سلبا في الاستثمارات وتدفقات التجارة الدولية.
وسيتوقف الأمر على مرونة الطلب العالمي، ومدى قدرة شركات الشحن والموانئ على التكيف مع تحديات التجارة العالمية، وإذا كانت منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي قد أوصت بمنح مساعدات ولا سيما في فرنسا وألمانيا اللتين اضطرتا إلى معاودة الإنفاق لتخصيص مساعدات للأسر والشركات فإن مظاهر جديدة ترسم ملامح العام الجديد بشكل مختلف ستمثل تحديات خاصة به، تضاف إلى ما قبلها، فالتضخم الذي يجد علاجه في الدول الاقتصادية الكبرى لا يجد مثله في الدول النامية حيث سجل التضخم فيها مستويات غير مسبوقة منذ السبعينيات والثمانينيات، دافعا ملايين العائلات في الدول النامية إلى الفقر ومهددا الأسر في الدول الفقيرة بمزيد من البؤس.
ترجح بعض المؤسسات الدولية أن أكثر من 35 في المائة من الاقتصاد العالمي سينزلق إلى الركود، وهذا سيجعل الحكومات في 2023 أمام قرارات وخيارات صعبة بين إعطاء الأولوية لمساعدة الفئات الاجتماعية الأكثر ضعفا لمساندتها على التغلب على ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، وتجنب زيادة الطلب الكلي لتتمكن الحكومات والبنوك المركزية من السيطرة على التضخم، مع ضبط السلوك المالي للسيطرة على الديون، وهذا توازن صعب جدا، سيرسم ملامح العام الجديد مبكرا.