كذب منجمو 2022 .. فهل نصدق نبوءاتهم عن 2023؟
عندما تقع أعين القراء الكرام على هذا المقال، لن تكون بينهم وبين العام الميلادي الجديد غير سويعات.
وما يميز الأسابيع الأخيرة من كل عام هو تقاطر المنجمين والباحثين في شتى الشؤون للتنبوء بما ستكون عليه الأوضاع في العام المقبل.
وهذا ما وقع بالضبط في الأسابيع الأخيرة من عامنا هذا، حيث امتلأت صفحات الإعلام الغربي بمقالات يدلي فيها هؤلاء بدلوهم حول ما يتوقعون أن يحدث في 2023. والتحدث حول التوقعات منحنى شخصي درس لن أنساه، وأسس هذا الدرس أن أي توقعات لا تأخذ سياق الأمور ومنها سياقات خارج نطاق الممكن الذي نحن فيه، قد تقلب الأمور على العكس. كثيرا ما استندت إلى خبرتي المتواضعة حول سير أسواق المال وأوضاع أسواق الطاقة لغرض التنجيم، وإذ بأغلب توقعاتي تذهب أدراج الريح.
وهذا لا يعني أن علي تجنب الولوج في باب التوقعات التي تبقى مجرد توقعات. والتوقعات تقرب من الاجتهاد، فإن أصاب صاحبه فله حسنتان، وإن أخطأ فله حسنة واحدة، والحسنة الواحدة هنا تعود إلى الجراءة في ولوج باب الاجتهاد.
بادئ ذي بدء لقد كذبت الحرب في أوكرانيا كل توقعات واجتهادات المنجمين الذي تناولوا ما يمكن أن يقع من أحداث وتنبؤات عن المسارات التي ستسلكها الأسواق والأسعار.
وعليه، أي توقعات عن العام الجديد، خارج سياق هذه الحرب، ستقع في خانة "كذب المنجمون ولو صدقوا". وفي نشرة خاصة على موقع إعلامي غربي شهير ورصين، وقع ناظري على مقال مطول بعض الشيء استفتى فيه الموقع آراء مجموعة من العلماء الكبار في أشهر مراكز البحث البريطانية والأمريكية حول مسارات الحرب في أوكرانيا، ونحن نودع 2022 وندشن عاما جديدا وهو 2023.
والمقالات مثل هذه تجذب كثيرا من الناس، والناس بطبيعة الحال الذي تعيشه، تميل صوب التنجيم، لأنه غيبي وكل غيبي بصورة عامة مرغوب، ولا سيما إن مال صوب ما نبغيه. قد يقول البعض إن إطلاق مصطلح التنجيم على التوقعات قد لا يصح، لكن مهما يكن من أمر، فإن التوقعات غايتها كشف الغطاء عن الذي نراه غائبا، أو ليس في إمكاننا التنبؤ بما سيكون عليه الشأن. والتنجيم اليوم له قليل من الشأن بالنجوم وكثير من الشأن بالتوقعات.
وعودة إلى المقال حول توقعات الباحثين والمختصين عن مسارات الحرب في أوروبا كما جاء في أحد المواقع الغربية المؤثرة.
الرأي السائد ـ عدا استثناء واحد ـ وفق ما نقل الموقع عن المختصين في مراكز أبحاث يشار إليها بالبنان، أن 2023 سيشهد هزيمة مدوية لروسيا على يد أوكرانيا. والمسألة بالنسبة إلى هؤلاء الباحثين، الذين يوردون أسبابا قد تكون مقنعة لدى كثير من الناس، لن تتعدى فصل الربيع المقبل، فحال ارتفاع درجات الحرارة وانحسار جماد الأرض ستدشن القوات الأوكرانية هجوما كاسحا لن تسترد فيه الأراضي التي احتلتها روسيا في عمليتها العسكرية التي مضى عليها أكثر من عشرة أشهر، بل "ستحرر" أيضا جزيرة القرم وتطرد الجيش الروسي منها.
وسنكون عندئذ أمام مشهد جيوسياسي استراتيجي جديد، يبرز الغرب بقيادة أمريكا أنه القوة الأعظم دون منازع وسيعاد تشكيل خريطة أوروبا والعالم.
لن أعلق على تنجيم مثل هذا، لأنه غيبي، قد يصيب أو لا يصيب، لكن "المنجمين" هنا نسوا أن الغريم ليس دولة عادية، بل قوة عظمى مدججة حتى أسنانها بأسلحة في إمكانها تدمير عالم مثل عالمنا عشرات المرات. ويذكرني هذا "التنجيم" الذي يشفي صدور كثيرين من الساسة وأصحاب الشأن في الغرب، بتوقعات مشابهة لما ستكون عليه أسواق المال والمسارات التي ستنتهجها لعامنا الذي نحن على وشك توديعه. كل التوقعات حول توجهات الأسعار وأسواق المال التي أتى بها "المنجمون" التي استحوذت على الصدارة في وسائل الإعلام، لم يكتب لها النجاح، حيث أسقطتها تبعات الحرب في أوروبا بالضربة القاضية.
كان الناس، استنادا إلى التوقعات، فرحين بقروضهم العقارية التي كانت نسبة الفائدة فيها تقريبا معدومة، واليوم خدمة هذه القروض بعد ارتفاع الفائدة بنسب وسرعة غير مسبوقة جعلت القروض عبئا كبيرا.
واستنادا إلى التوقعات، استثمر الناس كثيرا من مدخراتهم في الأسواق المالية التي كان متوقع لها أن تنمو بنسب كبيرة، وإذا بها تتهاوى في 2022.
والعملة الرقمية كان متوقع لها ليس الصمود بل الصعود وأن تبلغ قيمتها مستويات لم تصلها سابقا، وإذا ببعضها يتبخر والآخر يترنح.
ولن أحدثكم عن أسعار النفط والغاز والكهرباء والمواد الأساسية الأخرى، حيث شهد 2022 مسارات عاكست تقريبا كل التكهنات والتوقعات التي اطلعنا عليها في الأسابيع القليلة قبل مقدمه.
وماذا إذن عن توقعات "المنجمين" الغربيين عن مآل الحرب في أوكرانيا؟ هل سنشهد هزيمة روسيا، كما يقولون، أم العكس، أم الأزمة لا بل المأزق والورطة الكبيرة هذه ستشتد وتزداد سوءا؟
شيء واحد، رغم خشيتي من "التنجيم"، سأبوح به، استنادا إلى ما يمكن أن نستشفه من الأشهر العشرة المريرة الماضية من عمر هذه الحرب الضروس، فإن الغرب أكثر حيلة وحنكة ودراية في إشعال الحروب وإدامتها وأقل حيلة وحكمة وعقلا في إيقافها.
والعلم عند الله.