المؤشرات الأمريكية ودلائل الضغوط

لا شك أن التفاؤل الأخير بشأن مستوى التضخم في الولايات المتحدة، كان يستند إلى أسس واقعية، إلا أنها ليست متينة كما يتمنى المشرعون في هذا البلد.

فارتفاع أسعار المستهلك تباطأ في الأسابيع الماضية، ما دعم المجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي" إلى زيادة منخفضة قليلا للفائدة عند مراجعتها لها في منتصف الشهر الجاري.

فقد ارتفعت بمعدل 0.5 في المائة، وهذا مؤشر جيد بالنسبة إلى الحراك الهادف إلى كبح جماح التضخم، الذي بلغ 7.1 في المائة، لكن في النهاية يبقى أعلى بكثير من المستوى المستهدف بـ2 في المائة.

ما يأمل فيه المشرعون أن يصل التضخم في العام المقبل إلى 3.1 في المائة كحد أقصى، عبر السياسات التي يتبعونها، مستفيدين حقا من تراجع ملحوظ لأسعار السلع في الآونة الأخيرة.
لكن المشكلة الرئيسة هنا، تكمن في أن تراجع أسعار المستهلكين في نطاق السلع، يقابله ارتفاع واضح لأسعار الخدمات، ما يضفي بعض الإرباك على المشهد الاقتصادي العام على الساحة الأمريكية.

كما أن ذلك سيدفع الجهات المختصة ربما إلى إعادة النظر في وتيرة رفع الفائدة في العام المقبل نحو الأعلى وليس الأدنى، ما سيؤثر بالضرورة في مستوى النمو المأمول الذي يراوح بين 0.5 و1.2 في المائة. بمعنى آخر، إن هذا النمو رغم تدنيه سيكون مهددا في الأشهر المقبلة.

وهذا ما يضع "الفيدرالي" أمام حالة ملتبسة بعض الشيء، مرتبطة بتراجع أسعار المستهلكين في ميدان السلع، وارتفاعها في ساحة الخدمات التي تمثل محورا رئيسا بالطبع.

وعلى هذا الأساس، فإن كل التقديرات المستقبلية قد تكون عرضة للمراجعة في وقت مبكر في 2023.
سيضطر "الاحتياطي الفيدرالي" إلى المضي قدما في رفع الفائدة في العام الجديد.

فقد أظهرت كل المؤشرات ارتفاعات لافتة ومقلقة لأسعار الخدمات ولا سيما التنقل والسفر وتلك المرتبطة بالنشاطات غير المنزلية. وبالطبع يرتبط هذا الجانب مباشرة بسوق العمل المحلية.

وسجلت بيانات الحكومة في الآونة الأخيرة نقصا في نطاق العمالة، الأمر الذي اضطر أصحاب الأعمال إلى رفع الأجور بمعدلات جيدة مقارنة بغيرها في الدول الغربية.

لكن المشكلة تبقى في أن خفض التضخم سيؤدي إلى فقدان الوظائف، وهو ما يدفع بالتالي إلى إعلان الركود رسميا على الساحة الأمريكية، حيث تحاول الإدارة الأمريكية منذ أشهر التركيز على أن ما يمر به اقتصاد البلاد ليس سوى تباطؤ، يمكن السيطرة عليه بنهاية العام الجاري.
المهمة ليست صعبة في عملية إبطاء التضخم بوتيرة أسرع من خفض الأجور. وهناك تعقيدات واسعة في هذا المجال.

ولذلك ليس واضحا تماما ما إذا كانت الجهات الأمريكية المختصة قادرة في الأشهر المقبلة على السيطرة بقوة على المشهد الاقتصادي العام.

فالركود الذي يخيف كل الأمريكيين يمكن أن يظهر في أي لحظة، ويضرب مؤشرات النمو كلها التي تتحدث عنها الأوساط الاقتصادية.

وإذا ما واصلت أسعار الخدمات ارتفاعها في المرحلة المقبلة، فما على المسؤولين سوى الاستمرار في اتباع الاستراتيجية التي لا يوجد بديل عنها، وهي زيادة الفائدة سواء بصورة طفيفة أو كبيرة.

لا يمكن تجزئة التضخم في ساحة اقتصادية واحدة، خصوصا في ظل تطورات اقتصادية متسارعة، وسط مؤشرات بعيدة عن الإيجابية إلا في حدود ضيقة.
وبالمحصلة، فإن الضغوط الراهنة ستبقي التضخم عند مستويات مرتفعة إذا ما استمرت على وتيرتها الحالية.

وليس أمام المشرعين سوى العمل على تخفيفها، قبل أن يضطروا إلى إعلان ركود مكروه في العام الجديد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي