حتى تنقذ المراجعة الداخلية نفسها كمهنة
ظهرت المراجعة الداخلية في منتصف القرن الماضي، لكن مع ذلك لم تستطع إثبات نفسها كمهنة طوال هذه العقود الطويلة، مهنة كاملة الأركان، فالمهنة الكاملة لها قبول مجتمعي واسع، وقبول المجتمع ليس مجرد تقبل الوجود، بل عقد اجتماعي، عقد يضمن الوجود والحماية المجتمعية، وهذا العقد يتضمن بألا يعمل في هذه المهنة إلا شخص مرخص له من المجتمع، كما أن العقد يضمن تمايزا كاملا وانفصالا عن أي مهنة أخرى، وهذا لم يحدث حتى الآن في مهنة المراجعة الداخلية سواء في العالم، أو لدينا وطبعا ذلك على مستويات دولية متفاوتة.
ففي جميع العالم يمكن لأي شخص ممارسة مهنة المراجعة الداخلية دون الحصول على أي ترخيص مهني لها، وفي بعض الشركات يتطلب الأمر شهادة مهنية، لكن في الغالب الأعم حول العالم، لا أحد يهتم، ولم يصل الطلب على هذه الشهادة إلى مستوى المنع القانوني من العمل المهني في المراجعة الداخلية دون ترخيص.
علميا لم ينفصل هذا التخصص حتى الآن عن تخصص المراجعة في الدراسة الجامعة وفي كثير من جامعات العالم، حتى ذلك الاندفاع نحو برامج ودبلومات في هذا التخصص ليس له ذلك المبرر العلمي الكافي.
ولدينا في السعودية مشكلة تداخل مهني كبير بين المراجعة الداخلية والخارجية، حتى إن الهيئة السعودية للمحاسبين القانونين، "وهو الاسم القديم للهيئة والصحيح في نظري"، تحولت إلى مسمى هيئة المحاسبة والمراجعة، في إشارة ذات دلالة.
وهي بهذا تقدم عديدا من الدورات في المراجعة الداخلية حتى في المحاسبة القضائية.
ولو تأملت في أدوات المحاسبة القضائية لوجدتها من مهارات المراجعة الداخلية، وفي المقابل تقف مهنة المراجعة الداخلية كمسلوب الإرادة، بينما تعمل هيئة السوق المالية على إصدار قواعد الحوكمة، وهي تشمل قضايا تمس المراجعة الداخلية في غياب شبه تام لإرادة المراجعين الداخليين، كل هذه مؤشرات تدل على فقدان القبول المجتمعي الكامل للمراجعة الداخلية كمهنة، بل هي فقط مجرد وظيفة من ضمن وظائف الإدارة المعروفة ومن بينها الرقابة، والإداريون يعملون على تفويض هذه الوظيفة للآخرين "المراجعين الداخليين بحكم النظام حاليا"، وأكاد أجزم لولا هذا النظام لما رأيت مراجعا داخليا في كثير من الجهات.
وأظن بأن كثيرا ممن يقرأ المقال ممن تشبعوا بقراءة الكتاب الأحمر لمعايير المراجعة الداخلية، سيرفع شعار أن المراجعة الداخلية نشاط Activity وليست وظيفة، وهذا التعريف الذي تبناه المعهد الدولي لا يغير من حقيقة الأمر شيئا سوى أنهم أرادوا بذلك التأكيد أنه ليس بالضرورة وجود إدارة في المنظمة لها موقع في الهيكل، بل يمكن لمكاتب المراجعة الخارجية تقديم هذه الخدمات، وهذا يؤكد أنها ليست مهنة كاملة الأركان.
لقد أثبتت الانهيارات المالية والخسائر التي منيت بها الأسواق والشركات بأن المراجعة الداخلية مثلها مثل المراجعة الخارجية لا تغني ولا تسمن من جوع، فلقد فشلت كلتا المهنتين في حماية الأسواق من الرؤساء التنفيذيين المفرطين في الثقة، ومن الفساد بشتى أشكاله، ولولا بعض الجهود هنا وهناك لما حفظت هذه المهنة ماء وجهها، ولهذا لم تجد المجالس البرلمانية والتشريعية مناصا من فرض عديد من القيود الرقابية الجديدة تحت مفهوم الحوكمة.
ومن ذلك قيود النزاهة وقواعد السلوك، تلك القيود الأهم التي يجب رفع الاهتمام بها حتى أعلى مستوى، فالنزاهة لها رائحة جميلة تعم المكان الذي توجد فيه، لا يمكن تجاهل تلك المظاهر من النزاهة، وهي من الوضوح كمن لبس الثوب الأبيض الناصع إذا مر به من بثوبه شوائب، لكننا نفقد قدرتنا على الإحساس بهذه الرائحة إذا لم نجدها أو عمت الشوائب، والأسوأ إذا عمت الروائح الكريهة، بل نفقد ذائقتنا تماما حتى تصبح الرائحة الجميلة غريبة ومستنكرة.
قيم النزاهة وقواعد السلوك رأس الأمر وهي أوله وآخره، وهي التي تمنح سياسات المبلغين قيمة معنوية كبيرة، فمن خلال المبلغين تم الكشف عن 80 في المائة من قضايا الفساد، وهذا يعني أن المراجعة الداخلية والخارجية وجميع وسائل الرقابة فشلت في 80 في المائة من القضايا، ثم تنازعت الفخر بين 20 في المائة فقط، فكيف تجد المراجعة الداخلية مبررات دفع المجتمع إلى جزء من دخله السنوي على هؤلاء "المكتبيين".
في الحوكمة تنمو إدارة المخاطر بهدوء وهي بلا شك عندي مستقبل الرقابة كلها، فالعالم ليس بحاجة إلى المراجع الداخلي ليخبره بعد الفساد الذي تسبب فيه الحريق، أن الزيت قد وضع على النار فزادها لهيبا وأحرقت من حولها، وأنه كان علينا أن نبعد الزيت عن النار.
ما الفائدة من مهنة هذا حالها، المجتمع يريد من المراجع الداخلي أن يخبره بذلك قبل أن نضع الزيت، وقبل أن نوقد النار وقبل أن نحترق، لكن المراجعة الداخلية تفشل في ذلك وباستمرار، ولا عزاء للمراجعة الخارجية، فهي في نظري اليوم خارج الإطار المهني وخارج السياق الاجتماعي تماما، ولم يبق لها إلا قوة النظام، وقد ناقشت ذلك بوضوح في مقال سابق، ونعم قد أكون قاسيا قليلا على مهنة المراجعة الداخلية التي أحبها، لكن أقول ذلك حتى تنقذ المهنة نفسها، فإذا استمرت على هذه الحال فلن تبقى لعشرة أعوام مقبلة، والله أعلم.