Author

المراجع الخارجي وشركات التأمين .. هل المعايير مهنية؟

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

لماذا تطلب خدمات المراجعة الخارجية؟ الإجابة سهلة عند كثيرين، وهي أن خدمات المراجعة الخارجية تطلب من أجل إضفاء الثقة بالقوائم المالية للشركات.

مع الأسف هذا أول ما يتعلمه الطلاب في أقسام المحاسبة، على أساس أن البيانات التي تنشرها الشركات في قوائمها المالية تنقصها الثقة بأسباب من بينها احتمال وجود أخطاء جوهرية في القوائم المالية سواء كانت متعمدة أو غير ذلك.

لكن الثقة مجرد "شعور شخصي"، فكيف للمراجع الخارجي أن يحقق لكل مستخدم للبيانات المالية للشركات هذا الشعور بالثقة؟. 

هناك من يدعي أن استقلال المراجع هو الذي يمنح الثقة، فالمراجع المستقل الذي ليس له مصالح في الشركات التي يراجعها يمنح مستخدمي البيانات المالية ثقة، لكن المشكلة في هذا القول إنه يعني أن الثقة تتعلق بشخص المراجع وليس بالبيانات المالية، فهناك قصور منطقي، فكيف أقول منطقيا: إنني أثق ببيانات أعدتها إدارة شركة معينة لأنني أثق بشخص آخر لم تعد هذه البيانات أصلا؟ فالشك لا يزال موجودا في البيانات حتى لو كنا نثق بالمراجع.

فإذا كانت الثقة غير مسببة للطلب فلماذا نطلب خدمات المراجعين؟ ولماذا تدفع الشركات لهم؟ هذا السؤال حير الباحثين ولا يزال محيرا حتى الآن. 
الطلب على المراجعة له تكلفة - الأتعاب - وهناك ساعات عمل يقوم بها المراجع - تكلفة ورواتب - ولذلك فإن هناك حدثا اقتصاديا، هذه حقيقة اقتصادية، لكن ليس بالضرورة أن تكون هناك منفعة متبادلة، ذلك أن الطلب على المراجعة الخارجية ليس طلبا اختياريا، بل بفرض القانون.

لهذا هناك من يرى أن الطلب على خدمات المراجعة ليس قضية اقتصادية اجتماعية، بل هو فقط متطلب نظامي.

فإذا كانت كذلك فإن الطلب على خدمات المراجعة سيزول بزوال المتطلب القانوني، ولهذا فقد دب القلق في قلوب المهنيين عندما نص نظام الشركات الجديد في المادة الـ 19 بعدم سريان متطلب تعيين مراجع حسابات على الشركة متناهية الصغر والصغيرة، كما نصت الفقرة (٤) أنه لا يسري الحكم المتعلق بإلزامية تعيين مراجع الحسابات على شركة التضامن. بهذا يضع نظام الشركات الجديد مهنة المراجعة على المحك تماما، فإذا كان الطلب على المهنة قضية اجتماعية اقتصادية فإن الطلب سيستمر في هذه الشركات رغم نصوص النظام، وإذا كان غير ذلك فإنه سيتلاشى مع الزمن، ذلك أن المهنة ستكون مكلفة دون منافع اقتصادية، والمجتمع رشيد فلن يطلب هذه الخدمات مرة أخرى. 
جدير بالذكر هنا أن إلغاء إلزامية التعيين في شركات التضامن مهما كان حجمها هو دليل إضافي على أن الثقة بالبيانات المالية ليست محل الطلب، ذلك أن الثقة بشركات التضامن تتطلب الثقة بالشركاء بصفتهم مسؤولين عن ديون الشركة حتى في أموالهم الشخصية، لهذا فلا داعي للمراجعين هنا.

لكن هذا يقود النقاش نحو مبرر أهم للطلب على خدمات المراجعين وهو "الضمان الإضافي"، بمعنى أنه عندما يصبح ضمان الشركاء غير كاف بسبب الشكل القانوني للشركة كأن تكون من شركات الأموال أو مختلطة فإن النظام يفرض على الشركة تعيين مراجع قانوني من أجل زيادة الضمانات وليس من أجل إضفاء الثقة كما نظن.

ولهذا فقد نص نظام الشركات على إلزامية تعيين مراجع الحسابات في هذه الأنواع، حتى الشركات المتوسطة والصغيرة إذا كانت مدرجة في السوق المالية فإن عليها تعيين مراجع حسابات، ذلك لأنه ضامن إضافي. 

هناك دليل آخر على أن الطلب على خدمات المراجعة يأتي من باب الضمانات الإضافية وليس من باب الثقة وذلك أن قواعد تسجيل مراجعي حسابات المنشآت الخاضعة لإشراف الهيئة الصادرة عن مجلس هيئة السوق المالية بموجب القرار رقم (1-135-2018) في المادة (7) التي وضعت شروطا للتسجيل لدى الهيئة من بينها: "أن يكون لديه تغطية تأمينية كافية لمخاطر الإخفاقات المهنية"، فلماذا تشترط هيئة السوق المالية على المراجع التأمين على الأخطار المهنية، وهو شأن خاص به، لكن إذا كان ضامنا من بين المتضامنين في مقابل حقوق المستثمرين فإن هذا الشرط يصبح منطقيا، ولقد أثبتت القضايا التي رفعت على المراجعين في أنحاء العالم أن دورهم تحول من مراجع مستقل للبيانات المالية التي تقدمها الشركات في قوائمها المالية إلى دور مقدم خدمات تأمين ضد مخاطر انهيار هذه الشركات، حتى لو لم يكن المراجع على خطأ - وفق تقديره - عندما وقع تقريره، في هذا الوضع تبدو مسألة المعايير المهنية للمراجعة لا معنى لها تقريبا، إلا من أجل تحقيق متطلبات التسجيل في المهنة، وهذا يجعل التعقيدات التي تشهدها المعايير المهنية - معايير المراجعة - محل نظر. 
بقي سؤال مهم جدا، فإذا كانت هيئة السوق المالية ووزارة التجارة لا ترى في المراجعين أكثر من مقدم تأمين إضافي ضد المخاطر، فلماذا هناك قيود على دخول المهنيين في السوق المالية، فالمسألة ليست مهنة وجدارة بل قدرة على دفع أقساط التأمين، وكأن المراجع سيدفع لشركات التأمين ويأخذ أقساط التأمين - أتعاب المرجعة - من العميل فلماذا هناك سجل وشروط؟ والسؤال الذي يضعني في حيرة شديدة أمام التحولات المهنية في سوق المراجعة، هو لماذا تأخذ هيئة السوق المالية مقابلا ماليا من المراجعين الذين يقدمون خدمات لها، إلا إذا كانت الخدمات التي يقدمونها ليس خدمات مراجعة؟ لماذا هناك مقابل مالي على المراجعين بينما هو يقدم خدمات تأمين؟ وإذا كان الطلب على خدمات المراجعة هو في نهاية الأمر لمصلحة هيئة السوق المالية، فلماذا يفرض عليهم مقابل مالي؟ وإذا كان المراجع سيدفع مقابلا ماليا وغطاء تأمين للبقاء في السوق فماذا عن استقلاليته؟

إنشرها