استقرار الأسعار أولوية

اجتاحت العالم موجة ارتفاع الأسعار نتيجة تفشي فيروس كورونا أولا، والحرب الحالية التي تجري أحداثها شرقي أوروبا، ما تسبب في ارتفاع أسعار السلع والخدمات والمواد الغذائية في معظم أنحاء دول العالم، فبين سبتمبر 2019 وسبتمبر 2022، ارتفعت المستويات الرئيسة للأسعار الاستهلاكية، المتعلقة بحياة الناس 15.6 في المائة في الولايات المتحدة، و14.1 في المائة في المملكة المتحدة، و13.3 في المائة في منطقة اليورو، فعلى من تلقى اللائمة في هذا الأمر الذي يعد صعبا؟ هناك عوامل تسببت في رفع الأسعار، من بينها الحرب في أوكرانيا التي أسهمت في تعميق أزمة سلاسل الإمداد الممتدة منذ الأزمة الصحية العالمية، وهناك الطلب المكبوت الذي تحرك بقوة مع العودة من قيود أزمة كورونا، فقد توسع الطلب الاسمي 21.4 في المائة في الولايات المتحدة، و15.8 في المائة في المملكة المتحدة، و12.5 في المائة في منطقة اليورو.

وهذا يعادل نموا سنويا مركبا 6.7 في المائة في الولايات المتحدة، و5 في المائة في المملكة المتحدة، و4 في المائة في منطقة اليورو. لكن هناك من يلقي باللائمة على البنوك المركزية، خاصة "الفيدرالي الأمريكي"، فمع التوقعات التي كانت سائدة إبان أزمة كوفيد - 19، وتضمنت انخفاض الأجور والرواتب للأسر الأمريكية بما يراوح بين 20 و30 مليار دولار شهريا، ومع انخفاض هذا الرقم لعام كامل، فستكون هناك فجوة تراوح بين 250 و300 مليار دولار في الأجور والرواتب على مدار العام، ولمعالجة هذه الفجوة تم ضخ 900 مليار دولار من التحفيز في حزمة، ثم 1.9 تريليون دولار في حزمة إضافية مع وجود مدخرات للأسر بما مقداره تريليونا دولار، فقد رأى بعضهم أن "الاحتياطي الفيدرالي" تسبب في دفع حركة الطلب بشكل يفوق قدرة الاقتصاد على الاستيعاب، وبشكل لم يسبق له مثيل إطلاقا.

ويرى لورانس سمرز، اقتصادي بارز من جامعة هارفارد، أن هذا التحفيز قد تجاوز 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في مواجهة فجوة تبلغ 3 أو 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي تقرير نشرته «الاقتصادية» أخيرا بشأن فهم هذه القضية بشكل أوسع، فإن رئيس "الاحتياطي الفيدرالي"، في مؤتمره الصحافي بعد اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة في الثاني من نوفمبر، رأى أن استقرار الأسعار هو الهاجس الأهم حاليا، لأن ذلك هو حجر الأساس للاقتصاد، فمن دون استقرار الأسعار لن يتم تحقيق ظروف سوق عمل قوية تعود بالفائدة على الجميع، ولتحقيق ذلك عمل "الفيدرالي" على رفع سعر الفائدة إلى 4 في المائة حاليا. بين هاتين المسألتين، يواجه صناع السياسات النقدية تحديات لم يسبق لها مثيل.
المشكلة اليوم ليست في رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، لكن السؤال أصبح يكمن في مدى نجاح ذلك وعودة الأمور إلى نصابها، لكن المسألة تكمن - كما قيل - في ردم فجوة كبيرة بين التحفيز الذي حدث وحاجة الاقتصاد فعليا، فالنقد موجه للطريقة التي تم التعامل بها مع تحفيز يتجاوز 1.9 تريليون دولار، دفع بشكل غير مدروس لأشخاص عاطلين عن العمل في شكل تأمين البطالة بأكثر مما كانوا يكسبونه عندما كانوا يعملون، فلم يكن برنامجا موجها نحو الاستثمار العام، لهذا لم تكن معدلات التضخم اللاحقة معتدلة، لذلك تفاعلت أخطاء السياسة السابقة مع سلسلة من الصدمات الكبيرة لتوليد تضخم مرتفع.
ورغم أن الجميع قد يتفق حول ضرورة تصحيح ذلك، فإن مخاطر التشديد واضحة أيضا، ففي محاولة لخفض التضخم، شرعت معظم البنوك المركزية نحو تشديد سياساتها النقدية بزيادة أسعار الفائدة بوتيرة لم تشهدها الأسواق منذ الثمانينيات، لكن هذا ضروري لمنع إطالة مدة بقاء التضخم فوق الهدف، ففي مقابل ذلك مخاطر ركود عالمي عميق كان يمكن تجنبه، لا داعي له، وربما حتى دفع الاقتصادات إلى انكماش مزمن على النمط الياباني. وهذا يمثل خطرا بالفعل، لقد تفاعلت أخطاء السياسة السابقة مع سلسلة من الصدمات الكبيرة لتوليد تضخم مرتفع، ومع ذلك فإن أسوأ الاحتمالات ليس في تراجع التضخم ببطء شديد، لكن أن يستسلم صانعو السياسة بسرعة، وحل هذه المعادلة يكمن في أسواق العمل، ففي ورقة نشرها صندوق النقد الدولي تشير إلى أن في فترة السياسة النقدية التيسيرية منذ الأزمة المالية العالمية، نمت الأجور ببطء رغم الانخفاض القوي في معدل البطالة، خاصة بين الأقل مهارة، لكن وفقا لتقارير اقتصادية، فإن مع ارتفاع معدلات الفائدة قد تتراجع معدلات التوظيف، ولو تراجعت معدلات التوظيف بمقدار عشرة ملايين شخص ما كان يمكن أن يصبح هذا الوضع، ولذلك فإن احتمالات حدوث الركود ستكون أكبر.
خلاصة الأمر والسؤال الملح والمطروح حتى الآن: هل فشل واستسلم صانعو السياسات في مواجهة فخ التضخم وارتفاع المعدلات المخيفة على مستوى دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي