Author

آثار التشدد النقدي الأمريكي

|
أسهمت مسيرة العولمة منذ الحرب العالمية الثانية في دعم الهيمنة الاقتصادية والمالية الأمريكية على التبادلات العالمية. وأضحى الدولار منذ عقود العملة العالمية الأقوى والأكثر استخداما في التعاملات المالية والاحتياطيات النقدية الدولية. وقد عززت هيمنة الدولار مكانة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الدولية، فإضافة إلى كون البنك المركزي الأمريكي صار إلى حد كبير يحتل بشكل غير رسمي مكانة البنك المركزي العالمي. وغدت سياسات المجلس النقدية تتحكم بصورة كبيرة في متغيرات السياسات النقدية العالمية. وتتأثر معظم المصارف المركزية لدول العالم بسياسات المجلس وتراقب من كثب اجتماعاته ويتبنى عديد منها قرارات منسجمة معها.
ارتفعت مخاوف العالم عند بداية أزمة كورونا من الدخول في كساد عالمي ما دفع المصارف العالمية المركزية الرئيسة وعلى رأسها مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إلى تبني سياسات نقدية توسعية لم يسبق لها مثيل. وكانت هذه السياسات ضرورية في البداية، لكن تعافي الاقتصاد العالمي لاحقا بدأ يضغط على الأسعار ورفع معدلات التضخم. وعلى الرغم من صعود الأسعار فإن المجلس في البداية اعتقد خاطئا أنه صعود عابر ولم يحاول تقييد سياساته النقدية والحد من السيولة المفرطة في الأسواق. وقد تبعت باقي مصارف العالم المركزية سياسات المجلس حتى بدأت معدلات التضخم تتعمق في الاقتصادات العالمية، وظهرت صعوبات السيطرة عليها. ويدفع العالم حاليا ثمن خطأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي من خلال ضرورة تبني سياسات نقدية متشددة ستقود إلى ركود اقتصادي عالمي.
اقتنع المجلس منذ بداية العام الحالي بضرورة تبني سياسات نقدية تقييدية، حيث أوقف عمليات التيسير الكمي ورفع معدلات الفائدة الأساسية في اجتماعاته الستة الماضية. ويبدو أنه سيواصل رفع معدلات الفائدة في اجتماعاته المقبلة، لكن بوتيرة أقل. وكان معدل الفائدة الأساسية قريبا من الصفر المئوي العام الماضي بينما وصل حاليا إلى 4 في المائة، وهو ما دفع بمعدلات الفائدة على القروض التجارية والشخصية إلى أكثر من ضعف ما كانت عليه قبل عام.
ارتفاع معدلات الفائدة الأمريكية أثر بشكل واسع في الاقتصاد العالمي، حيث عزز وسيعزز أسعار صرف الدولار الأمريكي، كما سيرفع تكاليف الائتمان على مستوى العالم، خصوصا في الدول المثبتة عملاتها بالدولار الأمريكي. ويقود ربط أي عملة بالدولار الأمريكي ـ أو أي عملة أخرى ـ إلى فقدان الدول الرابطة لعملاتها استقلالية سياساتها النقدية. ففي حالة تعديل معدلات الفائدة الأمريكية تقوم مصارف تلك الدول المركزية وبشكل فوري بتعديل معدلات الفوائد على عملاتها بالنسبة نفسها، وذلك لمنع ما يسمى التجارة المحمولة.
تقود التجارة المحمولة إلى تدفقات ضخمة لرؤوس الأموال من وإلى داخل الدول بسبب فروقات معدلات الفائدة. وتضطر الدول المثبتة عملاتها بالدولار لتتبع السياسة النقدية الأمريكية لمنع تدفقات الأموال الضخمة خصوصا من قبل المؤسسات المالية. ويمكن تحقيق مكاسب آنية بالاقتراض بالعملة الوطنية "التابعة" والاستثمار في أصول العملة المستقلة "الدولار مثلا" عند رفع الفائدة عليها، ما ينتج عنه تدفق رؤوس الأموال إلى خارج البلاد. ويحدث النقيض عندما تكون معدلات الفائدة على العملة التابعة أعلى من معدلات الفائدة على العملة المستقلة، حيث تتدفق رؤوس الأموال إلى أسواق الأموال المحلية. وتلغي سياسة ربط العملة مخاطر تقلبات العملات على المقترضين والمستثمرين في العملتين، ولهذا تحقق التجارة المحمولة مكاسب شبه مؤكدة من أي فروقات في معدلات الفائدة بين عملتين معدلات صرفهما ثابتة.
وعند تراجع النشاط الاقتصادي وتبني سياسات نقدية توسعية في الولايات المتحدة، تضطر الدول المثبتة عملتها بالدولار إلى خفض معدلات الفائدة وتبني سياسات نقدية ميسرة حتى لو كانت تعاني موجات تضخم أو فقاعات أسواق المال والعقار. في المقابل فإن تبني سياسات نقدية انكماشية في الولايات المتحدة للتصدي لموجة تضخم داخلها، تجبر الدول الرابطة عملاتها بالدولار إلى اتخاذ سياسات نقدية تقييدية حتى لو لم تكن بحاجة إلى ذلك.
وعزز ارتفاع معدلات الفائدة الأمريكية أخيرا قوة الدولار القوي، ما سيكون له تأثيرات ملموسة في التجارة العالمية، كما سيؤثر سلبا في صادرات أمريكا "والدول المثبتة عملاتها بالدولار" ويحفز وارداتها ويثبط بالتالي معدلات النمو الاقتصادي الأمريكي. من جانب آخر سترفع زيادة الفائدة الأمريكية جاذبية السندات الأمريكية وتزيد التدفقات الرأسمالية إلى الولايات المتحدة. في المقابل فإن هذا سيخفض التدفقات المالية والاستثمارات لباقي العالم ويدفعه إلى رفع معدلات الفائدة، وبالتالي تثبيط الطلب ومعدلات النمو الاقتصادي العالمي. وسينتج عن رفع معدلات الفائدة الأمريكية والعالمية أيضا تصاعد مخصصات خدمات الديون الحكومية والخاصة عبر العالم، وقد يقود هذا إلى معضلات مالية لكثير من الدول والشركات والأفراد. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل سياسات المجلس المتشددة الحالية صائبة ومناسبة للتصدي لموجة التضخم الحالية؟ أم هل هي أقل أم أكثر مما يجب؟ إن أخطاء التقديرات السابقة أوقعت الاقتصاد العالمي في خيارات صعبة وأي أخطاء مستقبلية ستعقد كثيرا من الأوضاع الاقتصادية الحالية الحساسة حول العالم.
إنشرها