التكنولوجيا .. مراكز القوى تتبدل

شهدت مؤشرات الأسواق الأمريكية تقلبات شديدة ومتنوعة خلال الفترة الماضية، وسجل مسار حركتها أوضاعا متباينة، بسبب عوامل كثيرة وظروف متقلبة أثرت بشكل واضح وكبير في أداء الشركات في معظم القطاعات، ومن بينها شركات التكنولوجيا التي حققت قفزات قوية خلال الفترة السابقة في الأرباح والانتشار. وهنا نلاحظ أن مؤشر داو جونز الصناعي يجاهد في العودة من مستوى 28.725 نقطة وهي أدنى نقطة وصل إليها منذ إعلان "الفيدرالي" رفع أسعار الفائدة، حيث وصل المؤشر عند نهاية الأسبوع إلى مستوى 32.403 نقطة ليستقر على تراجع مقداره 11 في المائة عن مستواه في الفترة نفسها من العام الماضي، وفي المقابل لم يزل مؤشر ناسداك المركب يسجل تراجعا، حيث خسر أكثر من 34 في المائة من قيمته في الفترة نفسها من العام الماضي، ويغلق عند مستوى 10475 نقطة.
هذا التراجع الكبير في المؤشرات الرئيسة للسوق الأمريكية كان متوقعا بشكل أو بآخر، فقد سبق وخفض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي خلال العامين الحالي والمقبل، وجاء في تقارير آفاق الاقتصاد العالمي أن التضخم وعدم اليقين الذي يشهده النشاط الاقتصادي العالمي قد تجاوزا التوقعات في حدتهما، مع تجاوز معدلات التضخم مستوياتها التاريخية، ما ينذر بزيادة الأعباء على الأسر والمعيشة كلما تم تشديد الأوضاع المالية، مع استمرار الحرب في أوكرانيا، واستمرار التحذير من متحورات فيروس كوفيد - 19، وتشير التنبؤات إلى تباطؤ النمو العالمي من 6.0 في المائة عام 2021 إلى 3.2 في المائة في 2022 ثم 2.7 في المائة في 2023، فيما يمثل أضعف أنماط النمو على الإطلاق منذ 2001، هذه الصورة القاتمة الضبابية تأتي مع عدم وجود إشارات واضحة بشأن إنهاء الحرب أو نهاية قريبة للتضخم فقد ارتفعت المخاوف من تحول الحرب إلى نزاعات إقليمية منفلتة مع استخدامات للقوى النووية بشكل غير مسؤول، ورفع صندوق النقد الدولي بحسب تقارير منشورة توقعاته للتضخم في المتوسط العالمي إلى 6.6 في المائة وقد يتجاوز 10 في المائة عند المتوسط في الاقتصادات الناشئة والدول النامية.
وفي هذه الصورة الشاملة لاتجاهات الاقتصاد العالمي، فليس من قبيل الدهشة أن تخسر أكبر ست شركات تكنولوجيا أمريكية أكثر من 500 مليار دولار من قيمتها الثلاثاء الماضي بعد أن أدى تقرير التضخم المرتفع بشكل غير متوقع في آب (أغسطس) إلى تراجع أسهم شركات التكنولوجيا، ارتفع مؤشر أسعار المستهلك 0.1 في المائة للشهر، وارتفع 8.3 في المائة على أساس سنوي.
وفي هذا الشأن نشرت "الاقتصادية" تقريرا إيضاحيا تتبع تراجع أسهم شركات التكنولوجيا العملاقة، حيث تشير تلك البيانات إلى تراجع أسهم "ميتا بلاتفورم" 73.62 في المائة في أكتوبر، وذلك مقارنة بالسعر في الفترة نفسها من العام الماضي، وجاءت "نتفليكس" في مرتبة ثانية كأكبر انخفاض بنسبة 59.75 في المائة، وتراجعت "أمازون" 48.63 في المائة، بينما تراجعت "ألفابت" 43.73 في المائة وهبط سهم "مايكروسوفت" 36.32 في المائة وجاءت "أبل" بأقل هبوط بين شركات التكنولوجيا حيث تراجع السهم في حدود 8 في المائة فقط. وباستثناء شركة أبل فقد تراجعت كل شركات التكنولوجيا بأكثر من التراجع العام في مؤشرات الأسواق الرئيسة، وهذا يعطي مؤشرات بشأن الثقة وعدم اليقين في شركات التكنولوجيا خاصة تلك التي تعتمد على المنصات الرقمية.
وبكل تأكيد فإن للركود العالمي أثرا واضحا في تراجع الأسواق المالية، وكذلك العوامل التي أشار إليها تقرير صندوق النقد الدولي، لكنها في مجملها لا تقدم تفسيرات كافية لهذا التراجع المبالغ فيه في شركات التكنولوجيا، وتراجعت أسهم هذه الشركات بشكل حاد مقارنة بالتراجع الذي كانت عليه المؤشرات، ولتفسير ذلك أكدت تقارير عدد من المحللين أنه بعد الطفرة العملاقة في التجارة الإلكترونية التي أحدثتها بداية انتشار الوباء، فقد تباطأ نمو المبيعات عبر الإنترنت بشكل كبير في 2021 والسبب في ذلك هو عودة عديد من المستهلكين إلى الشراء المباشر، وتشير تقارير مختصة إلى أن نمو مبيعات التجزئة في 2022 تباطأ أيضا بسبب التضخم، ولأن مبيعات التجارة الإلكترونية تقوم على هذا القطاع فمن المتوقع أن ينخفض نمو مبيعات التجارة الإلكترونية إلى أقل من 10 في المائة هذا العام، وهو أدنى معدل له منذ 2009. ولأن الأرباح التي تحققها شركات مثل ميتا بلاتفورم تقوم على معدل بقاء الأشخاص على الإنترنت فإنه مع عودة الناس إلى العمل في المكاتب بعد الجائحة، والعودة إلى الحياة الطبيعية، كما تراجعت الأرباح عن معدلاتها الكبيرة في فترة الجائحة وهو ما انعكس بحدة على أسعار الأسهم اليوم. علاوة على ذلك فإن المنافسة أصبحت أكثر قوة بين المنصات مع دخول منصة تك توك على الخط، في حين أن معدلات الوقت الذي يقضيه الناس على الإنترنت لم ترتفع بشكل قوي (+1.0 في المائة) خلال العام الماضي، كما تشير بعض التقارير المختصة، وهذا ليس كافيا لتحقيق نمو قوي في الإعلانات والمستخدمين، ما يعني أن شركات المنصات ستتنافس في الساعات المتوافرة. فإذا لم يحدث نمو معقول في معدلات البقاء متصلا بالإنترنت، فإن المنافسة ستزداد حدة، وتخسر بعض شركات التكنولوجيا الأمريكية مواقعها الحالية وتتراجع أمام المنصات القادمة من الشرق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي