Author

«تويتر» .. عندما يستولي المال على خطاب ماسك

|
أستاذ جامعي ـ السويد

طوال الدهر، كان للثروة ومالكيها سطوة ومكانة. الثروة ترفع من شأن صاحبها وتسهل له أمور وشؤون الحياة الدنيا. لكن لم يمنح الدهر مكانة لأصحاب الثروة مثل التي يمنحها لهم عصرنا هذا. إن كان في سابق الدهر يحصل صاحب الثروة على أغلب رغباته المادية، فإنه اليوم صار يتحكم في مسارات الحياة من كبيرها حتى صغيرها ومن ضمنها الفضاء العام لخطابنا. هناك سطوة هائلة للثروة في عصرنا هذا. وهناك أسباب عدة لذلك، بيد أن واحدا من أهمها يكمن في حجم الثروة وتأثيرها العابر للحدود.
ويبدو أن حجم الثروة وتأثيرها لا سقف له. كلما زدنا ملكة ومنعة في تمكننا من ناصية التطور الخوارزمي الذي نشهده اليوم، علا شأن ومقام الثروة ومالكيها.
خطرت في بالي هذه الأسطر الموجزة وأنا أراقب عن كثب نشاطات وأحاديث وممارسات وقرارات إيلون ماسك بعد إتمامه صفقة شراء موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" الذي يقدم خدمة التدوينات المصغرة بحد أقصى لا تتجاوز 280 حرفا للتدوينة الواحدة.
وماسك غني عن التعريف. فهو أغنى رجل في العالم بثروة تقارب 220 بليون دولار. أسس ست شركات أشهرها "تسلا" التي عبرت قيمتها السوقية سقف 700 بليون دولار. لا يسع المجال لإيراد معلومات عن شركاته الأخرى، حيث سيكون تركيزنا في هذا المقال على "تويتر"، الشركة الجديدة لا بل الجوهرة التي أضافها إلى ممتلكاته أخيرا.
"تويتر" صاحب العلامة التجارية المميزة، وهي العصفور الأزرق الشهير، ليست من الشركات الكبيرة جدا في عالم الذكاء الخوارزمي الخارق الذي نعيشه، حيث لا تتجاوز قيمتها السوقية 44 بليون دولار.
بالطبع مبلغ 44 بليون دولار مبلغ هائل ويفوق قيمة الناتج القومي الإجمالي لعشرات الدول في العالم، لكنه يبقى مبلغا متواضعا مقارنة بعمالقة التكنولوجيا الرقمية أو الخوارزمية.
حتى إن أخذنا عدد المشتركين "نحو 400 مليون"، فإن "تويتر" تبقى صغيرة عند مقارنتها بـ"فيسبوك" "2.9 بليون" و"تيك توك" "750 مليون"، إلا أن تأثير ووقع التغريدات المصغرة على منصة العصفور الأزرق لها من الوقع والتأثير ما لا تملكه أي منصة أخرى في العالم.
و"تويتر" شركة أمريكية، والشركات الخوارزمية الأمريكية رغم قصر عمرها، كيانات نمت وتطورت في كل الأوجه وبسرعة البرق. فعمر "تويتر" لا يتجاوز 18 ربيعا، وأغلب عمالقة الثورة الخوارزمية لم يكونوا موجودين في السوق قبل 20 - 30 عاما وبينهم أيلون ماسك وشركاته الست.
في الفترة القصيرة هذه، قفزت القيمة السوقية لبعض هذه الشركات إلى تريليون دولار، ووصلت مساهمتها في إجمالي المنتج المحلي للولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، إلى نحو تريليوني دولار، أي ما يوازي نحو 10 في المائة من الناتج القومي الأمريكي.
لكن شركة تويتر تعد حالة خاصة، ليس بالنسبة للولايات المتحدة فحسب، بل للعالم برمته. التغريدات المصغرة لها وقع كبير وتأثير بالغ في تشكيل ليس الفضاء العام للخطاب فقط، بل الواقع الاجتماعي والسياسي أيضا.
كلنا نتذكر الوقع الهائل لا بل المزلزل لتغريدات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب على منصة العصفور الأزرق. وكلنا نتذكر كذلك كيف اهتز العالم حين أوقف "تويتر" حساب ترمب قبل مدة وجيزة من نهاية حكمه.
في 2013، أي سبعة أعوام على انطلاقة "تويتر"، كتب إريك أوشارد، وكان في حينه من كبار المحررين في وكالة "رويترز"، مقالا في مجلة علمية أكاديمية تعنى بشؤون الصحافة والإعلام وهي Journal of Applied Journalism and Media Studies توقع فيه أن تصبح شركة التغريدات المصغرة هذه قبلة ليس للصحافة فحسب، بل للإعلام عموما والباحثين والسياسيين وأصحاب الشأن في شتى مشارب الحياة.
وفي مقاله القيم هذا، يضع أوشارد قواعد وأسسا عامة للصحافة والإعلام لمعالجة التغريدات من حيث التحرير والتحقق من المحتوى وطرائق إسنادها ومن ثم تحويلها إلى مادة إعلامية وصحافية.
وتوقع أن تصبح "تويتر" مادة رئيسة للأخبار والتقارير الصحافية إلى درجة ألا تخلو مادة صحافية من ذكر "تويتر" أو تضمين تغريداتها.
وإن أجرينا إحصاء في ماكينة البحث العلمي المعرفي الشهيرة وهي جوجل لرأينا أن عدد الصفحات الخاصة بـ "تويتر" تزيد على 7.9 مليون صفحة.
وكباحث أكاديمي، ومؤسس ومحرر مجلة أكاديمية، أتلقى أبحاثا علمية عن "تويتر" أكثر من أي منصة تكنولوجية خوارزمية أخرى.
هذه هي "تويتر". نحن لسنا أمام منصة تجارية بحتة، نحن أمام منصة خوارزمية تشكل العالم الذي نعيشه وتعكسه وتؤثر فيه وتحدد مسارات ليست الأطر الخطابية فيها فحسب بل كثير من أطر الفكر والممارسة.
ودعني أنهي هذه المقدمة الموجزة عن أهمية هذه المنصة بإثارة سؤال بريء: هل من الإنصاف أن يترك مصير "تويتر" في يد شخصية، مهما كان رأينا وموقفنا عنها، مثل إيلون ماسك؟
سأحاول الإجابة عن هذا السؤال الصعب في مقال الأسبوع المقبل.

إنشرها