Author

أزمة الغاز الطبيعي والتحديات

|
يواجه العالم أزمة غاز طبيعي غير مسبوقة، ويتفاقم الوضع في أوروبا إلى مستويات شبه كارثية. وكانت تحذيرات قد أطلقت للدول الأوروبية في أيلول (سبتمبر) 2021 بوجود مؤشرات على خفض روسي لإمدادات الغاز الطبيعي. بعد ذلك تراجعت بالفعل إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا خلال الربع الأخير من 2021 بنحو ربع مستويات الفترة المقابلة من 2020. ولاحقا تصاعدت معدلات خفض روسيا لإمدادات الغاز مع تأزم الوضع الأمني في أوكرانيا بداية العام.
زودت روسيا أوروبا بما يقارب 40 في المائة من احتياجات الغاز الطبيعي قبل الحرب الأوكرانية، لكن فرض العقوبات الاقتصادية الشديدة على روسيا دفعها إلى اتخاذ إجراءات مقابلة تركزت على خفض تدفق الغاز الطبيعي. ونتيجة لذلك تراجعت الثقة بين الأوروبيين والروس بعد الحرب، وانخفض حجم الغاز المتبادل إلى نحو ربع أحجامه السابقة، وارتفعت أسعاره إلى مستويات قياسية، ما ولد تحديات صعبة أمام الاقتصادات الأوروبية. وتتخوف أوروبا من تراجع إمدادات الغاز الطبيعي لأغراض التدفئة الأشهر المقبلة، ما يهدد بشتاء قارس في منازل سكانها. دفع الخوف الأوروبيين إلى زيادة مشتريات الغاز الطبيعي من مصادر أخرى غير روسيا، ما قفز بأسعاره الأوروبية إلى مستويات قياسية، ورفع أسعاره حول العالم. وحققت أوروبا أخيرا نجاحا في رفع معدلات تخزين الغاز الطبيعي، حيث تجاوزت في معظم دولها نسبة 90 في المائة.
قفزت أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة أخيرا إلى أعلى مستوى في 14 عاما، حيث قاربت آب (أغسطس) الماضي عشرة دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية. وفي غضون ذلك تضاعفت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا عشرات المرات حتى قاربت 70 دولارا للمليون وحدة حرارية بداية أغسطس الماضي، وتجاوزته بعد ذلك في عدد من الصفقات، محطمة كل الأسعار التاريخية السابقة. وتهدد الأسعار المرتفعة الاقتصادات الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا بالركود.
اتسمت أسواق الغاز الطبيعي سابقا بدرجة مرتفعة من العزلة، حيث يتباين حجم الإمدادات والأسعار في مناطق العالم المختلفة المقسمة بشكل رئيس إلى ثلاث مناطق، هي: آسيا، أوروبا، وأمريكا الشمالية. ويعود ذلك إلى طبيعة الغاز الطبيعي الذي ينقل معظمه بالأنابيب. أما في الأعوام الأخيرة ومع نمو تجارة الغاز الطبيعي المسال والمنقول في السفن، فقد ازداد التنافس بين الأسواق الأوروبية والآسيوية. ورفع هذا التنافس أسعار الغاز الطبيعي في الأسواق الأوروبية والآسيوية على حد سواء، كما ضغط على أسواق الغاز الأمريكية ذات الوفرة العالية ورفع أسعارها أخيرا.
احتلت أوروبا قمة وجهة صادرات الغاز الطبيعي الأمريكي المسال بدلا من آسيا. وقادت زيادة الصادرات الأمريكية إلى تراجع مخزونات الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة، ما رفع أسعاره الأمريكية، لكنها ما زالت أقل بكثير من أسعاره الأوروبية. وغدت الولايات المتحدة أكبر دولة مصدرة للغاز الطبيعي المسال في النصف الأول من 2022، حيث بلغ معدل صادراتها اليومية نحو 11.2 مليار قدم مكعبة خلال هذه الفترة. وتعود زيادة الصادرات إلى زيادة قدرات التصدير الأمريكية، وإلى ارتفاع أسعار الغاز العالمية والطلب، خصوصا الأوروبي. ووجهت الولايات المتحدة 64 في المائة من صادرات غازها المسال إلى أوروبا خلال الفترة. أما بالنسبة للأسعار، فقد بلغ متوسط سعر المليون وحدة حرارية في أوروبا نحو 31 دولارا خلال النصف الأول من 2022، و29 دولارا في آسيا. وتنخفض أسعار الغاز في الولايات المتحدة حاليا إلى نحو سبعة دولارات للمليون وحدة حرارية.
استغل منتجو الغاز الطبيعي الغربيون في الولايات المتحدة والنرويج والدول الأخرى المصدرة للغاز أزمة الغاز الخانقة في أوروبا أسوأ استغلال، حيث رفعوا الأسعار إلى مستويات قياسية. ولم تبذل الحكومات الغربية أي مجهود للحد من الاستغلال الفاحش للأزمة تحت ذرائع حرية السوق. وكان باستطاعة هذه الحكومات الحد من مبالغة وجشع المنتجين تحت الظروف الطارئة والاستثنائية. يدفع المستهلك النهائي نحو ضعف أسعار الجملة للغاز الطبيعي في الولايات المتحدة. ويقدر أن تتجاوز قيمة فواتير التدفئة في الولايات الأمريكية الباردة الألف دولار هذا العام، ما سيرفع تكاليف المعيشة. أما في أوروبا، فإن كثيرا من السكان يعانون الارتفاع المفرط في أسعار الغاز والكهرباء، ما دفع الحكومات الأوروبية إلى تبني برامج دعم بعشرات المليارات من اليوروهات للأسر والصناعات المعتمدة على الغاز الطبيعي.
يواجه العالم حاليا وضعا صعبا في أسواق الطاقة، لكن الأزمة الحقيقية تتركز في أسواق الغاز الطبيعي. ويتعمد بعض المسؤولين الغربيين التركيز على أسواق النفط، في محاولة لصرف النظر عن الأزمة الحقيقية في أسواق الغاز الطبيعي. وتضاعفت أسعار الغاز الطبيعي الأوروبية بعشرات المرات مقارنة بـمستوياتها قبل عامين، كما ارتفعت أسعار صادرات الفحم الحجري الأمريكي بما يزيد على ثلاثة أضعاف مستوياتها قبل عامين، ما يفوق كثيرا ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة.
تتصف منتجات الطاقة بانخفاض مرونة الأسعار، ما يجعل أسعارها شديدة التقلب. وشجع انخفاض انبعاثات الكربون والملوثات من الغاز الطبيعي مقارنة بالنفط والفحم الحجري على ازدياد استخدامه ورفع الطلب عليه خلال الأعوام القليلة الماضية. وكان من المتوقع ارتفاع معدلات الطلب عليه في الأعوام المقبلة، لكن أزمة الغاز الطبيعي الحالية وقفزة أسعاره الحادة ستضعفان نمو الطلب المستقبلي عليه وتخفضان كثيرا من معدلات إحلاله بديلا للفحم الحجري والطاقة النووية والنفط.
إنشرها