مقياس التدفئة يؤرق أوروبا

مع انخفاض درجات الحرارة وارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة في الدول الغربية، خصوصا التي تقع في قارة أوروبا، هناك ارتفاع في نسبة القلق وخروج عن المألوف في التصريحات وخشية كبيرة من المستقبل.
لقد أقامت الدول الغربية، خصوصا الدول التي تقع في قارة أوروبا، صروحا حضارية ومدنية وصناعية واقتصادية واجتماعية، في نظر بقية العالم ترقى إلى مصاف الخيال.
وكلما ذهبت شمالا، زاد الرخاء والثراء وكثرت مباهج الحياة وأسدل التطور الصناعي والتكنولوجي والرقمي وذكاء المكنة والتنظيم المدني سدوله على مجتمع تأخذ الدولة بيد أفراده وترعاهم من المهد إلى اللحد.
هذا هو شأن الدول الاسكندنافية في شمال أوروبا التي تبهر الزائر القادم إليها حتى من دول مثل بريطانيا وفرنسا أو أمريكا.
وزارنا أستاذ من جامعة راقية في أمريكا مرة وكلفت بمرافقته. وطوال الزيارة كان يجري مقارنات بين بلده والسويد، ويكرر، "نحن ليس لدينا مثل هذا".
وأغرب ما أدلى به، ونحن نتمشى على رصيف شارع عام، كان قوله، "يا لله. أغلب الناس هنا تملك سيارة فولفو". وفولفو سيارة سويدية فارهة يرغب الأمريكيون في اقتنائها، لكنهم يعزفون عنها لغلاء سعرها.
وبعد أن أمعن النظر في الشارع وطريقة سير المركبات ونظام المرور، قال وهو يقارن نظام المرور بين أمريكا والسويد، "هل الذي يقود المركبة هنا بشر، أم إنسان آلي؟".
منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ـ أي قبل 70 عقدا ونيف ـ والغرب ينعم بسلام واقتصاد مزدهر ونمو مستدام ونظرة ملؤها التفاؤل إلى المستقبل.
وفجأة يرى الناس أن كل ما بنوه في الـ70 عاما الماضية صار على كف عفريت، وأن الصروح التي بنوها قد تنهار. ليس هذا فقط، بل إن هرمجدون "علامات الساعة" قد اقتربت.
القلق هو سيد الموقف في أوروبا. والمكان والمجتمع الذي يسوده القلق، يفقد توازنه.
وفقدان التوازن صار ظاهرة طاغية ولم يعد يمسك بخناق أصحاب الدخل المحدود، بل يؤرق المجتمع تقريبا برمته ووصل حد أن يفقد فيه كبار الساسة حنكتهم ودبلوماسيتهم.
مشهود للدبلوماسيين الغربيين هدوءهم في أحلك اللحظات وتماسكهم في أشد الأزمات.
لكننا نلحظ كثيرا من الأحيان أن كبار الساسة على وشك فقد أعصابهم من خلال تصريحات وأقوال تبث الرعب في الأوصال لخلوها من الدبلوماسية واحتوائها على تهديد ليس مبطنا، بل ظاهرا، لسحق الطرف الآخر، وهنا نشير إلى الصراع الدموي والحرب المدمرة التي جغرافيتها أوكرانيا، بيد أن مساحتها المباشرة هي قارة أوروبا برمتها.
وإن أردنا قياس درجة القلق والصراع النفسي والخشية التي تدب في الصفوف، فما علينا إلا مراقبة الخطاب الذي يرافق الشأن العام وأوضاع الناس.
وواحد من المقاييس المهمة للرأي العام السائد هي وسائل الإعلام. ونظرة خاطفة لما تنشره الصحف الغربية ووسائط التواصل الاجتماعي تظهر ما يؤرق الناس في هذه الأيام.
لم يكن الحطب من المسائل التي يكترث لها الناس، لكنه صار مشكلة عويصة لارتفاع سعره وندرته. أصحاب المنازل بصورة عامة في الغرب لهم مدافئ تعمل على الحطب، وبعد أن صار الحطب عملة نادرة، شأنه شأن الوقود بصورة عامة، تضاعفت معاناة التدفئة في فصل الشتاء.
وأصبحت درجة التحكم بالراديتر "مقياس مشع الحرارة" أو متى يجب تشغيله من القضايا المهمة التي تطرحها أمهات الصحف وتتلقفها وسائل التواصل الاجتماعي. وأنت تقرأ وترى كثيرا من التهكم، لأن مسألة تدفئة البيوت والإنارة المبهرجة للمنازل والشوارع في ليال الشتاء الطويلة كانت إلى ما قبل الحرب الحالية في أوروبا غير قابلة حتى للمناقشة.
ونحن في الثلث الأخير من تشرين الأول (أكتوبر) والبرد أجبر الناس على ارتداء الملابس الثخينة، إلا أن النقاش محتدم حول إن أصبح البرد من الشدة يبرر فيها تشغيل التدفئة أمام شح في الطاقة وجنون في فواتير الكهرباء.
وحدث أن البعض مما يبدو أنهم ميسورون وغير مكترثين لفواتير الكهرباء الضخمة نشروا صورا لهم وهم قاموا بتشغيل المشعات الحرارية في بيوتهم، وانهالت التعاليق السلبية وأمطرهم الناس بالنقد.
ووصلت المشادات إلى صفحات الجرائد الكبيرة مثل "ذي جاردين" التي نشرت عمودا خاصا الثلاثاء الفائت عن النقاش الحامي هذا.
وما جذب انتباهي كان تعقيبا مقتضبا لقارئ مجهول الهوية يسخر فيه من الحياة في الغرب مذكرا الناس أن الحانات تكتظ بالزبائن كالسابق، وكأن شيئا لم يكن وينفقون هناك من المال ما قد يوازي ضعفي فاتورة الكهرباء المضخمة حاليا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي